تتفاقم حساسية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من الولايات المتحدة، ففي بضعة أيام تلقى منها ضربتين، الأولى كلام المرشحة الرئاسية هيلاري كلينتون على خططها لمزيد من تسليح الأكراد في الحرب على «داعش»، والثانية تصريح مسؤول أميركي بأن تركيا ليست في عداد التحالف لتحرير الموصل، وهذا الكلام يعني انحياز واشنطن إلى رئيس الوزراء العراقي الداعي إلى انسحاب الجيش التركي من بعشيقة.
يعبر أردوغان عن حساسيته بإطلاق اتهامات لواشنطن تبدو مستعارة من القاموس الإيراني، حين يشكك بنيات قوات التحالف تجاه «داعش»، فلا يعقل في نظره أن تعجز 65 دولة عن هزيمة 10 آلاف إرهابي من التنظيم في العراق ومثلهم في سورية. ويقول إن 3 طائرات أميركية أنزلت أسلحة في كوباني حصل «داعش» على نصفها. ويخلص إلى أن واشنطن، إذ تتعاون مع تنظيم PYD الكردي فهي تضع إرهاباً في مكان إرهاب، كأنه بذلك يتخوف من دور رئيسي للأكراد في تحرير الموصل، خصوصاً حزب العمال الكردستاني الموجودة قواته في سنجار كما في بعض كردستان العراق.
أردوغان الذي لا يزال يطارد الانقلابيين ويواصل حرباً مع الأكراد شرق البلاد بدأت قبل عقود، هو وارث تركيا الأتاتوركية الحديثة ومحطمها بوضعه النهضة الاقتصادية في محل النهضة القومية، لكن مساره «الإخواني» بدأ يواجه عثرات في الداخل التركي وفي الإقليم، وأيضاً في المجال الأوروبي الأميركي حيث الشراكة في الحلف الأطلسي.
ويعي الزعيم التركي طبيعة اتفاقاته الاقتصادية وشبه السياسية مع روسيا وإيران، على رغم حضورهما عادة في صورتي عدوّ الشمال وعدوّ الشرق، وهي اتفاقات هشة تناسب السمة الجديدة لمعظم العلاقات الدولية منذ مطلع الألفية الثالثة، لكون وجهات المصالح تتغير بسرعة فلا تسمح باتفاقات ثابتة.
ومن فوائد علاقات تركيا بروسيا وإيران، صمت المسؤولين في الدولتين عن وجود الجيش التركي في سورية في إطار عملية «درع الفرات» التي لا موعد نهائياً لإنجازها، وفي العراق في بعشيقة قرب الموصل. هذا الوجود العسكري يحظى بقبول ضمني من موسكو وطهران، على رغم صراخ بشار الأسد والتصريحات اليومية الشاجبة التي يطلقها حيدر العبادي.
لا حدود لتمدد الجيش التركي في سورية والعراق، فالأمر مناط بالصراع الداخلي في كل من البلدين وبمصير «داعش» الذي يناصبه أردوغان العداء فيما يبارك في تصريحاته تنظيم النصرة (أو «فتح الشام») وسائر الفصائل الإسلامية المعارضة في سورية. ولا مواعيد لانسحابه من البلدين الجارين قبل انكشاف طبيعة الدولة الجديدة في كل منهما. لقد أعلن أردوغان أن تركيا معنية بالصراع الاجتماعي (أي الطائفي أو العرقي) فيهما، وبالتالي فهي مدعوة مع دول أخرى إلى إعادة تكوين البلدين، لكونها الجار الكبير لهما والمتحكمة بمنابع نهري دجلة والفرات وذات التأثير الاجتماعي والديني الموروث من العصر العثماني.
كيف لا يستعيد السوريون والعراقيون، أو معظمهم، ذكرياتهم العثمانية، وهم يشهدون تفكك الدولة الحديثة وانطفاء المشاعر القومية العربية لمصلحة إسلام عالمي تشكل إسطنبول أبرز ركائزه والأقرب زمنياً؟
بهذا يحظى الجيش التركي بـ «شرعية» في سورية والعراق تتأكد مع كل ضربة تتلقاها الدولة المركزية التي تكاد تهوي، تاركة رعاياها ضائعين يبحثون عن هوية محلية طائفية أو قبلية، أو طالبين مساندة جار قوي يتمثل عربياً في دول مجلس التعاون الخليجي وإقليمياً في كل من تركيا وإيران.
ولأن أردوغان لا يكفّ عن الإعلان أن الأمن القومي لبلده هو ما يدفع إلى دخول جيشه الأراضي السورية والعراقية، لا يستطيع إغفال حقيقة أكثر بروزاً هي أن سورية والعراق يشكلان مجالاً أمنياً لدول الخليج العربي، بل إنهما يعتبران تحديداً خط الدفاع الأول عن المملكة العربية السعودية.
لهذا السبب، ولأسباب أخرى مماثلة في الأهمية، يشارك وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو في اجتماع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي المنعقد اليوم في الرياض برئاسة وزير الخارجية السعودي عادل الجبير.
ونعود إلى تحرير الموصل: الآليات العسكرية تتحرك لكن العراقيل السياسية تزداد.
الحياة – محمد علي فرحات