نشر مركز «بلفر» للعلوم والشؤون الدولية، مقالًا تحليليًّا مشتركًا لأستاذة الشؤون الدولية في جامعة هارفارد، ميلاني كاميت، ولاما مراد، الزميلة الباحثة في المركز، تحدثتا فيه عن تداعيات اجتماع أزمتين في لبنان: أزمة «كوفيد-19» والأزمة الاقتصادية.
الأزمة الاقتصادية وهشاشة تقاسم السلطة الطائفية
يبدأ المقال بالإشارة إلى الاحتجاجات العفوية ضد فرض الحكومة اللبنانية ضرائب تنازلية أخرى (ينخفض فيها متوسط معدل الضريبة مع زيادة المبلغ الخاضع للضريبة)، في السابع عشر من أكتوبر (تشرين الأول) العام الماضي، التي سرعان ما تحولت إلى انتفاضة شعبية بمجموعة أوسع نطاقًا وأكثر شمولًا من المطالب، تنتشر في شتى أنحاء لبنان.
اقتصاد الناس
كان الشعار الرئيسي للاحتجاجات «كلُن يعني كلُن» يمثل تحديًا لفساد الطبقة السياسية الطائفية برمتها، وكشف بما لا يدع مجالًا للشك الدور الذي لعبته هذه النخبة، إلى جانب البنوك، في إحداث الانهيار المالي الذي ابتُلي به لبنان. وكانت هذه الأزمة الاقتصادية والثورة التي تمخضت عنها تمثل تحديًا لأسس نظام المحاصصة الطائفية.
يضيف المقال: «بالنظر إلى ما نعرفه عن تقاسم السلطة، فإن مشهد انهيار ذلك النظام سيكون مذهلًا. فمن خلال إعطاء جميع وسطاء السلطة البارزين مقعدًا على الطاولة، وإضفاء الطابع المؤسسي على عملية صنع القرار المستندة إلى توافق الآراء، ومنح حق النقض على وضع السياسات؛ ترسخ أنظمة تقاسم السلطة ميلًا داخليًّا نحو سوء الحكم ومقاومة الإصلاح».
وتلفت الكاتبتان إلى أن الإبقاء على الوضع الراهن يصب في مصلحة النخب السياسية، وحتى الأعداء ينحون خلافاتهم جانبًا ويحشدون صفوفهم من أجل الدفاع عن ذلك النظام. ومن المرجح ألا يستطيع إزاحة هذه النخب عن السلطة سوى الصدمات الكبرى، مثل: الحروب أو الانهيار الاقتصادي.
وفي حين تنضب الخزائن العامة للبلاد، بدا أخيرًا أن نظام تقاسم السلطة يعَجِّل بهلاكه. فمع تقلص القدرة المالية للدولة، وتضاؤل ميزانيات الأحزاب الطائفية والمنظمات التابعة لها، تتعرض شبكات المحسوبية، التي تعد شريان الحياة للنظام، لخطر داهم.
من المؤكد أن التفكيك الفعال للنظام الحاكم في لبنان لا يتطلب فقط تآكل شبكات المحسوبية – التي قد تعوضها النخب السياسية جزئيًّا من خلال القمع المتزايد – بل يتطلب أيضًا ظهور أحزاب جديدة وفاعلين سياسيين يتمتعون بقدرة تنظيمية مستدامة. ومع ذلك، وجهت الأزمة الاقتصادية والثورة التي تلتها ضربة شديدة للنظام.
كوفيد-19.. هل يكون هدية للأحزاب الطائفية في لبنان؟
إلى جانب ما سبق، جاءت جائحة كوفيد-19، وربما تكون هي الهدية الأكبر للأحزاب في المستقبل القريب لسببين:
أولًا؛ أن ضرورة الحد من الاتصال الاجتماعي التي تحتمها تدابير الصحة العامة، وما يترتب على ذلك من إغلاق شامل للدولة، قوَّض إمكانية اندلاع تظاهرات حاشدة. وأدى ذلك بفعالية لعرقلة المسار الرئيسي لحشد تضامن أشمل، يستند إلى المعاناة الاقتصادية المشتركة، بدلًا من الانقسامات التي عملت النخب الحاكمة بجد لإدامة بقائها. وكانت الاحتجاجات في حد ذاتها، التي امتدت على نطاق واسع في جميع أنحاء البلاد، رمزًا للوحدة ومحفزًا لها، متجاوزةً الانقسامات الإقليمية والطائفية والطبقية في لبنان. وكما شاهدنا مطلع الأسبوع الماضي، دمرت السلطات الحكومية ما تبقى من خيم الاحتجاج في وسط بيروت وطرابلس، تحت ذريعة تطبيق أمر البقاء في المنزل لمحاربة الفيروس.
ثانيًا؛ في حين يمكن بوضوح تحميل الطبقة السياسية الفاسدة مسؤولية الأزمة الاقتصادية التي ضربت البلاد، فإن جائحة كوفيد-19 تحمل فائدة للأحزاب السياسية؛ التي لا يمكن تحميلها مسؤولية الفيروس. بالطبع ثمة انتقادات وجهت للدولة والنخب السياسية على ردة فعلهم، إلا أن الجائحة ذاتها ليست من صنيعهم.
صحة
يشير المقال إلى أن الأمر الأكثر خطورةً هو القدرة المحدودة للدولة على معالجة الأزمة، لأسباب قائمة مسبقًا، فاقمتها الأزمة الاقتصادية. ومن المؤكد أن التكنوقراط داخل وزارة الصحة العامة، وموظفي المستشفيات يعملون بجد لمواجهة ذلك التحدي. وكما نوهت الدكتورة فاطمة السياح في مقابلة مع المركز اللبناني للدراسات، فعلى الرغم من أن نطاق إجراء اختبارات فيروس كورونا ما يزال ضئيلًا، فإنه أفضل من نظرائه في العديد من الدول الأخرى.
وبقدر بسالة هذه الجهود المبذولة، لكنها لن تكفي لمواجهة تحدي الجائحة، لا سيما وأن النقص الموجود مسبقًا في الدولار يهدد القدرة على استيراد الإمدادات الطبية المطلوبة بشدة. وفي الثامن من أبريل (نيسان) الجاري، بلغ عدد حالات الإصابة المؤكدة بمرض كوفيد-19 في لبنان 575 حالة، إضافةً إلى 19 حالة وفاة، وفقًا لأرقام وزارة الصحة العامة، رغم أن الكثيرين يخشون من أن تكون تلك الأرقام أقل بكثير من الأرقام الحقيقية للحالات في هذا البلد.
وفي إطار ضعف قدرات الدولة وتدابير الإغلاق، تقدم جائحة كوفيد-19 فرصة للأحزاب الطائفية لترسيخ دورها، وأن تظهر وكأنها لا غنى عنها لضمان الرعاية الاجتماعية الأساسية للمواطنين اللبنانيين.
ولعل خطة حزب الله لمواجهة فيروس كورونا هي الأبرز والأوسع نطاقًا، وهي تشمل نشر أكثر من 20 ألفًا من العاملين في مجال الرعاية الصحية، وتجهيز المراكز الطبية والمستشفيات في شتى أنحاء لبنان.
ورغم ذلك، تنتشر الآن صور الأحزاب السياسية وهي تطهر الأحياء، وتبني مراكز حجر صحي، وتوزع أقنعة تحمل شعاراتها في شتى أنحاء لبنان.
وفي بعض الحالات، يتجاوز الأمر الأراضي اللبنانية، فعلى سبيل المثال، أعلنت القوات اللبنانية تشكيل خلايا أزمة للمساعدة في تنسيق عودة الرعايا اللبنانيين من الخارج، وتقديم المساعدات والدعم لهم عند الحاجة.
ظهر ما يبدو أنه سباق لتقديم هذه الخدمات – وفعْل ذلك علنًا بغرض أن ينسب كل حزب الفضل لنفسه في ذلك الصدد – مع فرض الإغلاق الكامل الذي يضمن عمليًّا إجبار المواطنين على الاعتماد على خدمات تلك الأحزاب.
في بيئة يسودها الترشيد، هل ستكون الأحزاب قادرة على إتاحة الوصول إلى الخدمات للجميع بإنصاف؟
وتقول الكاتبتان إنه نظرًا لكون جائحة كوفيد-19 لا تعترف بحدود طائفية أو حزبية، فإن جهود الأحزاب للحد من انتشار المرض ستنتشر بالتأكيد على نطاق شامل. لكن هل ستوفر الأحزاب الطائفية وصولًا عادلًا ومتساويًا للعلاج الذي يخصص لأنصارها على نحوٍ تفضيلي؟
يجيب المقال: في ظروف معينة، يكون لدى الأحزاب دوافع لتقديم الخدمات على نطاق واسع، بما يتجاوز مجتمعاتها أو قاعدة داعميها. وربما تزيد الطبيعة المعدية للفيروس المستجد من هذه الدوافع. على سبيل المثال، في مقابلة أجريت مع هاشم صفي الدين، رئيس المجلس التنفيذي لحزب الله، نوه عن أن الحزب يقدم الدعم داخل عددٍ من مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، حيث طلبت سلطات المخيمات منه المساهمة.
لكن في بيئة يسودها الترشيد، هل ستكون الأحزاب قادرة على إتاحة الوصول إلى الخدمات للجميع بإنصاف؟ بحسب المقال، قد يكون ذلك الأمر مرتبطًا بتوزيع المساعدات الاقتصادية قصيرة الأجل على الأسر. وكما هو الحال مع العديد من الأحزاب الأخرى، بدأ التيار الوطني الحر توزيع حصص غذائية على الأسر المحتاجة في مناطق بشتى أنحاء البلاد. وتكون هذه الخدمات أكثر عرضةً للتوزيع الانتقائي، وفي غياب شبكة أمان اجتماعي شاملة ومع محدودية نطاق البرنامج الوطني لاستهداف الفقر، ستكون هذه الخدمات مهمة للكثير من اللبنانيين الذين تضررت موارد الدخل الخاصة بهم خلال الأشهر الأخيرة، ويجدون أنفسهم الآن غير قادرين على الذهاب إلى العمل؛ بسبب إجراءات الإغلاق.
التضامن الاجتماعي في عصر جائحة كوفيد-19
تتابع الكاتبتان: إن الحاجة للتضامن الاجتماعي لمعالجة أزمة جائحة كوفيد-19 تُعد أمرًا بالغ الأهمية؛ حتى يتمكن المواطنون من الامتثال للتضحيات الهائلة التي تتطلبها مكافحة انتشار الجائحة. والمصلحة الشخصية، بوصفها دافعًا للالتزام بتوجيهات الصحة العامة، يمكن أن تنهار بسهولة بمرور الوقت، خاصةً مع تدهور الأوضاع الاقتصادية للمواطنين على نحو أكبر، ولن يكون إكراه الناس على الامتثال لأجل غير مسمى أمرًا مجديًا دون إثارة اضطرابات. وفي نهاية المطاف، سيكون على المواطنين الامتثال طواعيةً.
إن التحديات التي تواجه تحقيق تضامن اجتماعي واسع النطاق في لبنان راسخة، بالنظر إلى الانقسامات الطائفية المسيَّسة، إلى جانب انقسامات أخرى. إلا أن ثورة أكتوبر أظهرت أن تلك التحديات ليست عصية على الحل مطلقًا؛ إذ إن دعوات الوحدة من طرابلس شمالًا إلى صور جنوبًا، أشارت إلى إمكانية قلب نظام الحكم. ومع ذلك، فإن إعادة الاستعانة بنظام المحسوبية السياسية الطائفية في وقت الحاجة الشديدة يشكل تهديدًا مباشرًا لهذا التضامن الناشئ. إذ اتسم الحصول على الرعاية الصحية، من بين الخدمات الأساسية الأخرى، عبر التاريخ بتفاوتات اقتصادية وحزبية عميقة، ولذلك؛ فهو سيكون حاسمًا في ذلك الصدد.
من الضروري تجنب جعل اللاجئين كبش فداء كما حدث في حالات سابقة داخل لبنان.
وبحسب المقال، قد تتفاقم الانقسامات الاجتماعية الأخرى، مثل تلك المتعلقة باختلاف الطبقات الاجتماعية والجنسيات، في أثناء هذه الفترة. وبينما تشق جائحة كوفيد-19 طريقها حتمًا إلى مستوطنات اللاجئين، حيث تكاد تكون أنشطة التباعد الاجتماعي مستحيلة، ويكون الحصول على الإمدادات اللازمة لأنشطة النظافة العامة محدودًا، فمن الضروري تجنب جعل اللاجئين كبش فداء، كما حدث في حالات سابقة داخل لبنان.
وتحقيقًا لهذه الغاية، دعت السلطات صراحةً إلى الإنصاف في الحصول على الفحص والعلاج. على سبيل المثال، دعت وزارة الصحة العامة مؤخرًا النائب العام للتحقيق مع المستشفيات وفرض عقوبات عليها؛ إذا منعت دخول المرضى على أساس الجنسية، وذلك بعد وفاة مواطن سوري كان في حالة حرجة، قبل أن يحصل على الرعاية الصحية، كما شددت الوزارة على ضرورة حصول الجميع داخل البلاد على الرعاية الصحية، بما في ذلك الفلسطينيون والسوريون.
وكما هو الحال في البلدان الأخرى التي تفتقر إلى شبكات الأمان الاجتماعي الشاملة، فإن العبء الأكبر للأزمة الاقتصادية والجائحة يقعان بشكل كبير على كاهل الفئات صاحبة الدخل المنخفض. ومع مرور الوقت – ولن تنتهي أزمة الصحة العامة هذه بسرعة – سيكون من الصعب على الفقراء الامتثال للتعليمات بالبقاء في منازلهم والامتناع عن الذهاب إلى العمل. وتشير بعض التقارير إلى أن ذلك حدث فعلًا؛ إذ تحدى متظاهرون حظر التجوال في العديد من المناطق داخل لبنان، مثلما حدث في منطقة عكار بمدينة طرابلس وضواحي العاصمة بيروت، احتجاجًا على تفاقم الظروف الاقتصادية.
ويشير المقال إلى أنه من المرجح أن الوضع الاقتصادي المتردي، الذي تفاقم بشدة بسبب أزمة الصحة العامة، سيجعل الأشخاص الأكثر عوزًا معتمدين كليًّا على توفير الخدمات الاجتماعية التي تقدمها المجموعات الطائفية.
نعمة أم نقمة على الأحزاب السياسية في لبنان؟
بالعودة إلى السؤال الرئيسي، هل ستقوِّض هاتان الأزمتان المتلازمتان – الاقتصادية والصحية – سلطة الأحزاب السياسية الحاكمة؟ أم ستعمل على تقويتها؟
الربيع العربي
تجيب الكاتبتان: على المدى القصير، قد يكون للأزمة المالية وجائحة كوفيد-19 آثارًا عكسية على مصير تقاسم السلطة الطائفي في لبنان؛ ففي حين أسهمت الأزمة المالية في تجفيف موارد شبكات المحسوبية التي تدعم الأحزاب الطائفية، قدمت الجائحة فرصًا للأحزاب كي تنسب الفضل لنفسها في تقديم المساعدات. ومع ذلك، سيستمر التحدي الرئيسي المتعلق بالموارد على المدى الطويل. وعندما تنتهي أزمة كوفيد-19 في نهاية المطاف، ماذا سيبقى للأحزاب السياسية الطائفية، وكيف ستعالج التحديات الاقتصادية القادمة الأكثر خطورة؟
تختم الكاتبتان بالإجابة: «من شبه المؤكد أن الأحزاب الحاكمة لن تستطيع معالجة الأزمة الاقتصادية بطريقة شاملة ومستدامة؛ لأن فعل ذلك يستلزم تفكيك أركان النظام الذي يدعمها. لكن حتى يظهر منافس آخر جاد لهذه الأحزاب، لديه رؤية مقنِعة لبديل سياسي واقعي، وقدرة تنظيمية للحشد على صعيد وطني، فإن أسس الطائفية السياسية ستضعف، لكنها لن تنهار».
المصدر: ساسة بوست