مئات القتلى وآلاف الجرحى، ضغوط مادية وأخرى داخلية، وخروج من دائرة “المقاومة” وخطر التحول إلى مجرد ورقة في تسويات إقليمية ودولية، تلك أبرز خسائر “حزب الله” المادية والسياسية التي يدور الحديث عنها اليوم، والتي تقابلها مكاسب كبيرة على مستوى التدريب والتأهيل والتسليح لعناصر الحزب الشيعي اللبناني، والفرص الكبيرة أمامه للتحول إلى رقم صعب تحرص أطراف إقليمية ودولية على الحفاظ عليه ومساندته، في حال تحقيقه والحلف الذي يخوض الحرب معه، إنجازات حقيقية على الأرض السورية.
لم تتوقف الآلة الإعلامية لحزب الله، منذ خمس سنوات، عن التأكيد وإعادة التذكير بالأسباب التي دفعته للدخول في المستنقع السوري، وعن التزاماته تجاه حلفائه، الأمر الذي قد يعتبر بحد ذاته مؤشرا على وجود أزمات لدى الحزب، تتعلق بأدائه على الأرض، وفي قدراته على حفظ تماسك جبهته الداخلية وجهوزية قاعدته الشعبية، أو “الخزان البشري لقوته العسكرية”، كما وصفته دراسة أمريكية حديثة، نشرتها وكالة “الأناضول” التركية للأنباء.
إلا أن الخسائر الكبيرة التي مني بها الحزب، البشرية والمادية، لا تكفي حتى الآن للحديث عن هزيمة للحزب، أو عن تراجع قريب له من جبهات القتال، بحسب الدراسة الصادرة عن معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى.
مكاسب استراتيجية
حقق حزب الله مكاسب كبيرة من التجربة السورية على المستويين العسكري والإقليمي. فبالرغم من مقتل أكثر من 1600 وجرح أكثر من 5000 من العناصر المقاتلة للحزب، بحسب تقديرات، فإن الحزب قد تمكن من رفع المستوى القتالي لآلاف آخرين من خلال مشاركتهم في المعارك.
لقد حول الحزب سوريا إلى “حقل تجارب” مفتوح لمختلف الأسلحة، و”ميدان تدريب” كبير لآلاف المقاتلين على تكتيكات لم يعتدها الحزب من قبل، فهذه الحرب هي الأولى من نوعها التي يخوضها الحزب منذ تأسيسه، حيث يقف مقاتلوه في موقع الهجوم، لا كما اعتاد في حروبه السابقة مع إسرائيل.
إلى جانب ذلك، فإن قيادات الحزب العسكرية، قد تمكنت للمرة الأولى من خوض معارك جنبا إلى جنب مع القوات الروسية، كما حدث في معركة تدمر في آذار/ مارس الماضي، حيث تمكن قادة الحزب ومقاتلوه من التعرف على التكتيكات والاستراتيجيات العسكرية المتقدمة التي يستخدمها الروس، إلى جانب إلقاء نظرة عن قرب على آخر ما توصلت إليه التكنولوجيا العسكرية.
ويتبع الحزب سياسة تدوير المقاتلين، حيث إنه يرسل ثلث مقاتليه، المقدر عددهم بـ30- 33 ألفا، إلى الجبهات لمدة محددة قبل أن يقوم بارسال قوات تحل محلهم، وذلك لتجديد الدماء على الجبهات وتعزيز قدرته على الصمود، ولتشجيع المقاتلين وعوائلهم على تقبل المشاركة، إلى جانب رفع المستوى القتالي لأكبر عدد ممكن من مقاتليه.
إلا أنه ومنذ إعلانه المشاركة في جبهات بعيدة عن الحدود اللبنانية، فقد زادت مدد بقاء مقاتليه على الجبهات قبل استبدالهم، الأمر الذي ترتب عليه تكاليف مادية ومعنوية كبيرة من جهة، ولكنه من جهة أخرى شكل فرصة مهمة للحزب لتدريب عناصره على البقاء في الجبهات لفترات طويلة، وفي النهاية فإن أداء الحزب على الأرض سيرجح كفة مكاسبه أو خسائره من تلك المغامرة.
وتجدر الإشارة أيضا إلى إنشاء الحزب قواعد عسكرية على الأراضي السورية، كما حدث في القصير بعد انتصاره فيها عام 2013، الأمر الذي يجعل لحضوره بعدا استراتيجيا إلى جانب الأبعاد الأمنية والدينية، أي “حفظ أمن لبنان وحماية الأماكن المقدسة”، ويرسخ تحقيق الحزب مكاسب على الأرض في سوريا بالرغم من التكلفة الثقيلة. حيث قام الحزب وإيران بنقل جميع الأنشطة المشتركة التي كانت تتم في إيران، من تدريب ودورات لعناصر الحزب، إلى تلك القواعد، الأمر الذي عمق من ارتباط الحزب بالصراع في سوريا.
إقليميا
مهما كانت نتيجة الصراع الدائر، فإن حزب الله أثبت بأنه ورقة مهمةٌ لأطراف إقليمية عديدة، وفرض نفسه لاعبا أساسيا في “محور الممانعة”، الأمر الذي يشجعه على المضي في استثماره في الملف السوري، ففي النهاية لن يتخلى عنه “أصدقاؤه” مهما حصل مستقبلاً، داخليا على الساحة اللبنانية أو خارجيا، كما أنه قد يثير أداء الحزب اهتمام أطراف أخرى قد تسعى لدعمه من أجل الاستفادة من خدماته وخبراته مستقبلاً، في سيناريو شبيه بحزب العمال الكردستاني.
ويشكل وجود الحزب في قواعد على الأرض السورية وبالقرب من هضبة الجولان السوري المحتل، تقدما على جبهة المواجهة مع إسرائيل، الأمر الذي سيؤثر على طبيعة الصراع بين الطرفين، حيث قد يمنح الحزب قدرة أكبر على المناورة في المواجهة القادمة كما تقترح الدراسة، ولكنه أيضا يفرض الحزب كلاعب إقليمي مهم قد تسعى أطراف دولية للتفاهم معه دون اللجوء إلى المواجهة، خصوصا مع وجود مصالح للحزب في ملفات أخرى، تبدّى بأنها قد تفوق ملف الصراع مع إسرائيل أهمية بالنسبة للحزب.
الخسائر
سبقت الإشارة إلى أعداد قتلى وجرحى الحزب، حيث إنها تقدر بـ1600 قتيل و5000 جريح، إلا أن الأمر لا يقف عند إحصاء الأرقام، حيث تؤثر تلك الخسائر نفسيا على حاضنة الحزب الشعبية وإيمانها بمهمته في سوريا، والذي يفاقمه عجز الحزب في كثير من الأحيان عن نقل جثامين قتلاه لدفنهم في لبنان.
وتضم قوائم قتلى وجرحى الحزب قادة ميدانيين وكوادر مخضرمين، الأمر الذي ينعكس على أداء المقاتلين على الأرض وعلى ومعنوياتهم.
ولا تقف تداعيات تلك الأرقام عند ذلك الحد، حيث يلتزم الحزب بدفع تعويضات لأهالي القتلى والجرحى للحفاظ على تلك الحاضنة ولبث الطمأنينة لدى المقاتلين بأنه لن يترك عوائلهم في حال “استشهادهم”، إضافة إلى الأموال التي يتم ضخها في أجهزة الحزب الإعلامية للحفاظ على حماس أنصاره وقدرته على تجنيد المزيد من الشباب.
يشكل كل ذلك ضغوطا مادية كبيرة على الحزب الذي يعاني أصلاً من نفقات الحرب، ومن تردي الاقتصاد اللبناني، وتأثيرات انخفاض أسعار النفط على الدعم السوري والإيراني، عدا عن العقوبات الأمريكية والأوروبية، وأخيرا وليس آخرا، العقوبات الخليجية، الأمر الذي حدا بالحزب إلى تقليص رواتب العديد من كوادره، وخفض المبالغ المقدمة لجهات داخلية من أجل الحصول على ولائها السياسي، بحسب الدراسة.
ومن قبيل الاستدلال على مخاوف الحزب الحقيقية حيال تراجع التأييد الشعبي الشيعي في لبنان لعملياته في سوريا، فإن الدراسة تشير إلى حرص قادة الحزب جميعهم، بمن فيهم أعضاء البرلمان، على حضور جنازات جميع القتلى، وإقامة جنازات مهيبة لهم.
إن الحرب في سوريا، في سياقها المذهبي والإقليمي بل والدولي، أثرت بشكل كبير على الداخل اللبناني، وعززت من الشلل السياسي والاقتصادي والتشرذم الاجتماعي الذي تعيشه البلاد، الأمر الذي يزيد من فرص ظهور أصوات من داخل البيت الشيعي تدعو إلى الخروج من المستنقع السوري ولملمة الأوضاع داخليا وإيقاف النزيف في الأرواح والأموال، وقد حدث ذلك الأمر بالفعل، حيث ظهرت مجموعات حظيت بقبول لدى أعداد من الشيعة من قبيل “هيا بنا” و”تجمع لبنان المدني” و”جنوبية”، وغيرها من المجموعات المعارضة لتوجهات حزب الله.
بالرغم من كل ذلك، فإن الحزب لا يزال يحظى، بحسب إحصاءات وتقديرات، بدعم 80% من شيعة لبنان الـ1.6 مليون، إلا أن أي فشل له على المستوى العسكري في سوريا، سيزيد الضغوط بشكل مضاعف على قدراته في الحفاظ على ذلك الدعم.
أما قاعدته الشعبية الإقليمية، التي عمل جاهدا على تعزيزها لعقود، فيبدو أن الحزب قد قرر الاستغناء عنها عندما أعلن إرسال قواته للمشاركة في قتل الشعب السوري وإخماد ثورته، فقد كان يحظى بدعم كبير في دول عربية كالكويت والأردن ومصر، ارتفع بشكل ملحوظ بعد حربه في 2006 مع إسرائيل، وتهاوى بعد 2013.
ماذا بعد؟
في ظل هذه الصورة، يبدو أنه يصعب الجزم بمستقبل حرب “حزب الله” في سوريا وبتوقع نتائجها النهائية، فأي خلل في موازين القوى على الأرض، أو أي تطور كبير قد يطرأ على تجاذبات التسوية السياسية للملف السوري بين الدول المعنية فيه، قد يؤثر على الحزب بشكل مضاعف.
ولكن الحزب، من جهة أخرى، يخوض الحرب ضمن حلف كبير لن يقبل بالهزيمة الكاملة، وبالنسبة له، فإن أقل مكاسب التحالف حجما ستشكل انتصارا كبيرا له، وستدعم من موقعه في الداخل اللبناني وعلى المستوى الدولي.
يمكن القول بأن حزب الله لن يعود أبدا كما كان، فإما أنه سيتم تقليص حجمه ضمن تسوية إقليمية ودولية، أو أنه سيمضي قدما بالدور الذي يمثله اليوم، وبشكل أكبر، لأن الرجوع إلى المربع الأول، مربع “الحزب المقاوم”، سيعد تراجعا عن مكاسب الحرب التي ضحى لأجلها بالكثير.
لقد عززت مشاركة الحزب في هذه الحرب من ارتهانه لقوى من قبيل روسيا ذات العلاقات القوية مع إسرائيل، وإيران التي قامت أخيرا بمصالحة الغرب، كما أن صورته في الشارع العربي والإسلامي السني لا يمكن ترميمها بعد الآن، ولو عاد الحزب إلى محاربة إسرائيل، التي سيستمر بإظهار العداء لها والتناوش معها للحفاظ على رصيده في الشارع اللبناني الشيعي على الأقل.
إذن، فالحزب، في أفضل الأحوال بالنسبة له، مقبل على تطور هام، يخرج فيه من دائرة “الحزب المقاوم” إلى دائرة “الأداة القوية”، التي ستستمر في محاربة “التكفير” والدفاع عن “الأماكن المقدسة” وحماية “أمن لبنان” والدفاع عن “أصدقائه”، وربما تكون حروبه القادمة في الداخل اللبناني أو في العراق واليمن، حيث لا ينفي الحزب وجود أنشطة له فيهما بالفعل، وربما في أماكن أخرى.
عربي21