لاشكّ أن المملكة العربيّة السّعوديّة دولة غنيّة من النّاحية الاقتصاديّة، فهي تصدر يوميّا قرابة 10 ملايين برميل من النّفط. والأزمة الحاليّة مع دولة قطر لن يكون لها تأثير مادّي كبير على المملكة. لكنّني في هذه المقالة أودّ أن أتحدث عن نوع آخر من الخَسائر أصاب هذه الدّولة بعد أن أعلنت الحِصار على دولة قطر.
إنّ الخسائر المادية يمكن تلافيها واستدراكها لكن ما لا يُمكن إصلاحه هو الخَسائر المعنويّة والأخلاقية. وهذا الأمر مثلما ينطبق على الأفراد فهو ينطبق كذلك على الدّول والحُكومات. وسوف أركز في هذا المقال على المملكة العربية السعّودية دون بقية الدّول المقاطعة أو المحاصرة لِما لهَا من مكانة في قُلوب المسلمين في العالم أجمع.
فقدان المصداقيّة
انطلقت الأزمة الخليجيّة بعد أن تمّ اختراق وكالة الأنباء القطريّة ونشر أخبار مفبركة على صفحاتها، ونُسبت إلى أمير قطر تَصريحات لم يُدل بها، وسارعت السّلطات القطريّة إلى تكذيب تلك الأخبار. غير أنّ الإعلام السّعودي ممثلاً في قنواته التلفزيونيّة وصحفه أصرّ على تكرار تلك الأخبار واستدعاء المحلّلين للتّعليق عليها في حملة متواصلة استمرّت دون توقّف. ثم أعقب ذلك إعلان حصار برّي وبحريّ وجويّ على دولة قطر، ولم تكتف السّعودية وحليفاتها بهذه الإجراءات بل عمدت إلى اتخاذ إجراءات عقابية قاسية ضد أيّ مواطن يبدي تعاطفه مع قطر. فالقصة كلّها إذن انطلقت بأخبار ملفقة “كَاذبة” لم يستطع مروّجوها إقناع العالم بها ناهيك عن إقناع الجَماهير العريضة في دول الخليج والعالم العربي، ولذلك وجدنا هذا الزّخم الكبير من التّعاطف مع قطر في وسائل التّواصل الاجتماعي. ومن هنا يمكن القول إن المملكة العربيّة السعودية قد فقدت المصداقيّة بشنّها حملة على دولة جارة وشقيقة بناءً على أخبار مُفبركة لاأساس لها من الصحّة.
فقدان الثّقة
المتابع لطبيعة الإجراءات التي اتُّخذت من قبل الحكومة السّعودية وحليفاتها ضد قطر يُلاحظ أنه لم يبق سِوى إعلان الحربِ عليها وتسيير الجيوش ضدّها. وخلال الأيام الأولى من الأزمة كانت هناك مخاوف حقيقية من الإقدام على خطوات من هذا القبيل، لكن بعد ظهور مواقف دوليّة مؤيدة لقطر ووقوف تركيا بقوة إلى جانب قطر اقتصاديّا وعسكريّا، والتحرك الكويتي للوسَاطة لحلّ الأزمة عن طريق الحوار تَراجع احتمال التّدخل العسكريّ، بل واَنقلبت المعادلة وأصبحت قطر هي التي تُحاصر محاصريها، فقد تعاملت مع الأزمة بعقلانية وبقدر كبير من ضبط النّفس.
الخطوات التّصعيدية المثيرة التي أقدمت عليها المملكة العربية السّعودية وحجم التهديدات التي ظهرت في الإعلام السّعودي أعاد إلى الذّاكرة الغزو العراقي للكويت في التّسعينات من القرن الماضي. وربما لهذا السبب بالذات تحرّك أمير الكويت بسرعة لرأب الصّدع وإصلاح ما يمكن إِصلاحه. الشّعب القطري وشُعوب الدّول الخليجية الأخرى كانت تنظر إلى المملكة العربيّة السّعودية على اعتبار أنّها الشّقيقة الكبرى التي يُعتمد عليها في المحن وعند الشّدائد، لكنّ هذه الأزمة كَشفت لهم أنّها يُمكن أن تمثّل تهديدًا لأمنهم لا ضمانة له. وهذه خسارة أخرى للملكة، فالمؤكد أنّ الثقة فيها تراجعت بشكل كبير بعد هذه الأزمة.
الفُجور في الخُصومة
من يتابع الإعلام السّعودي في تناوله للأزمة الخليجيّة يُصيبه الذّهول من حجم التّشويه والسّباب والشّتيمة والوقوع في الأعراض، هذا الإعلام لم يُراع أيّة ضَوابط أخلاقيّة وخرج خروجًا سافرًا عن المهنيّة التي يَقتضيها العَمل الصّحفي. ويَنسحب ذلك على قنوات “العربيّة” وأغلب الصّحف الرّسميّة. ونَذكر جيدًا ذلك العنوان المثير للاستغراب في موقع قناة “العربية ” عندما زعمت أن الأسواق في قطر خاوية على عُروشها وأنّ النّاس “يَتكالبون على السّلع الغذائيّة”. هذا ناهيك عن الإساءات لرموز دولة قطر في مخالفة كبيرة لأيّة اعتبارات دينيّة وأخلاقيّة.
كلّ هذا يجري طبعًا على مرأى ومسمع من الحكومة السعوديّة، وللمرء أن يتساءل أفما كان ينبغي للحُكومة السّعودية أن تمنع هؤلاء الصّحفيين من السّقوط وتُلزمهم بحدُود وضوابط أخلاقيّة ؟ أم أن كلّ شيء يُصبح جائزًا عند الاختلاف مع “الشّقيق” ويجوز حتى “الفُجور في الخُصومة”. ففي هذه الأزمة انكشفت حقائق كثيرة تجعل الحَليم حَيرانًا.
“علماء” يؤيّدون الحِصار
من بين اتّهامات السّعودية لقطر دعم جَماعة الإخوان المسلمين ودعم حماس، فبعد إعلان المقاطعة أو الحِصار كان “عُلماء” المملكة جاهزين لإصدار الفتاوى تأييدًا لإجراءات الحُكومة ضدّ دولة قطر المسلمة “الشّقيقة”، هذا ما قامت “هيئة كبار العلماء” في المملكة وقامت كذلك به “رابطة العالم الإسلامي”. وفي خطبة الجمعة في المسجد الحرام خطب الشيخ عبد الرّحمن السّديس في النّاس وأيّد الحصار، واعتبر أن فيه الخير للشّعب القطري. ولا ندري أيّ خير يَقصده، وأي منفعة تعود على الشّعب القطري جراء غلق المنافذ البرّية والبحريّة والجويّة في وجهه. ولم نسمع من “علماء المملكة من يردّ على السيد عادل الجبير وزير الخارجية السّعودي الذي اعتبر حماس حركة إرهابيّة وجب التّصدي لها ومحاربتها.
ما يحيّر في مواقف هؤلاء الدّعاة و”العُلماء” أنهم يهبّون بسرعة لتأييد أيّة خطوة تقدم عليها الحُكومة مهما كانت مخالفة لتعاليم الإسلام وصادمة لجماهير الأمة، وهم الذين ظلّوا يردّدون طويلاً أنّ إسرائيل هي العدو الحقيقي للأمة وأنّ حماسًا إنّما تُدافع عن الأرض وعن عرض الأمّة، ولا ندري كيف تحوّلت هذه الحركة بقدرة قادر إلى حركة إرهابيّة يُجرّم كلّ من يُؤيدها ويَدعمها.
ماذا سيَكون موقف الشّباب الذين طالما أعجبوا بهؤلاء “الدّعاة” و”العلماء” لوقت طويل واعتبرُوهم قُدواتٍ لهم؟ لاشكّ أنهم سوف يُصابون بخيبة أمل كبيرة مثلما حصل لهم مع دعاة مصريّين أيدوا الانقلاب وأيّدوا مذابح رابعة والنّهضة. خيبة هؤلاء الشّباب سوف تتحوّل إلى نفور من هؤلاء وشُعور بالإحباط، وبالتالي قد تكون وجهتهم الحركات المتشدّدة والمتطرفة.
إنّ منهج هؤلاء “العلماء” في تأييدهم المطلق للسّلطان وتبريرهم لكل سياسته وصمتهم عما يَرونهم من مخالفات شرعيّة كفيل بأن يخلق أجيالاً جديدةً من المحبطين سياسيّا ودينيّا واجتماعيًّا. والمملكة السعودية بذلك تخسر اعتبارها الدّيني كذلك وليس السّياسي والأخلاقي فقط؟
ترك برس