قبل نحو عقد، كنت أطوف وسط دمشق، صحبة أحد قدامى البعثيين الذين هجروا الحزب مبكراً، ولمّا وصلنا إلى شارع 29 أيار، هتف صاحبي، وكأنه وجد ما وجده أرخميدس: هنا قام مقهى الرشيد الصيفي، معلماً ثقافياً وسياسيا، اشتهرت به دمشق أيام زمان، قبل أن يندثر، ليشيد على أنقاضه هذا المبنى. هنا ولد حزب البعث، وهنا أيضا…. لم يكمل جملته، وأكملت أنا: وهنا، أيضاً، يوشك الحزب أن يندثر، كما اندثر المقهى الذي احتضنه.
أطرق قليلاً، قبل أن يمد يده لي بوثيقة صادرة عن القيادة القطرية السورية، تتحدث عن مراجعة لأوضاع الحزب، بهدف تطوير وتحديث المفاهيم التي تبناها، وأنماط التفكير السائدة داخله، ووسائل العمل التنظيمي .. إلخ، وعلق: “للأسف، إن أحداً، لا داخل الحزب ولا خارجه، في وسعه أن يوقف الانحدار الذي نعاني منه، انحدار الحزب، وانحدار البلد أيضا“.
في حينه، كانت سورية تموج بغليان تحت السطح، كان ثمة ما هو مكشوف للزائر، فالحزب الذي كان أداة تبشير بالحرية، حرية الوطن، وحرية المواطن، أصبح يهيمن على كل مفاصل الحياة في البلاد. إنك لا تستطيع أن تفعل شيئاً من دون أن يكون الحزب حاضراً، لكأنه كان يعيد تجربة صنوه في العراق التي أدت إلى سقوطه على نحو مريع، وضع البلاد في قبضة احتلالين، شعرت بما يجري، وأنا الزائر لأيام، لكنني أردت أن أسمع شهادة واحد من أبناء الحزب.
قال لي، بعد أن تلفت يميناً ويساراً، كأنه يخشى عيناً ترصده، أو أذناً تتنصت على ما يقوله، وقدّرت، من جانبي، أن هناك بالفعل عيناً ترصد، وأذناً تتنصت: حالنا اليوم تشبه حال بطل رواية (الكهف) لساراماغو، صانع أواني الخزف الذي يفاجأ بانصراف الناس عن شراء بضاعته، بعد أن تغير العالم، ولم يعد في وارد أحد استخدام هذا النوع من الأواني. يصاب باليأس، ولا يجد حلاً سوى في اعتزال الناس والعيش في كهف. وفي الكهف، يعثر على بقايا عظام وجماجم. وفي لحظة يقظة، يدرك أن تلك البقايا بقاياه هو، وبقايا الناس الذين تآلف معهم، هي، أيضاً، بقايا العالم المنهار كله. أخيراً، يفكر بالهرب بلا وجهة معروفة له، ومن دون أن يعرف أين وكيف ستنتهي به الرحلة!
طبعت وجه محدثي مسحة مرارة، قبل أن يسترسل: هكذا نحن، سجناء في كهف الحزب، باختيارنا أو باضطرارنا. وفي كهف البلد الذي خربه الحزب، نتخيل واقعاً يناسب رغباتنا، وننسى أن ما نتخيله ليس الواقع الماثل فعلاً، فقد تغير العالم، ولم يبق من عالمنا ذاك سوى بقايا عظام وجماجم، هي خلاصة ما صنعناه بأيدينا، وها نحن نحاول الهرب، من دون أن نعرف كيف وأين.
صمت، وصمت أنا، فلم يعد ثمة ما يغري بالاسترسال في الحديث، انعطفنا نحو شوارع أخرى، أزقة وأسواق ومبان، بعضها عتيق تشم فيه رائحة العفن، وبعضها حديث يتشبث بعمارة هجينة، وأناس بعضهم يمشي على غير هدى، وبعضهم يبدو وكأنه يساق إلى حتفه!
“يوشك الحزب أن يندثر، كما اندثر المقهى الذي احتضنه“
لكم تغير العالم، مرت عقود، منذ قامت حركة “البعث” بشيرا بنهوض قومي يعيد إلى الأمة حيويتها، ويرد إليها عنفوانها. كانت أحلام الوحدة والحرية والعدالة الاجتماعية تطوف في رؤوس شلة مقهى الرشيد الصيفي التي كانت تحمل الإصرار على تحقيق “انقلاب عميق، مبدع وشامل، يبعث في الأمة طاقاتها الروحية الأصيلة التي تؤهلها لبناء مستقبلٍ يكمل ماضيها، ويتجاوزه، ويتفوق عليه”. لكن، الأمور اختلفت، عندما تفرق الرواد الأول، وغاب الرهان على الفكر الذي جاءت به شلة “المقهى”، عندما أصبح الحزب سلطة تعدل بين الناس حينا، وتجور عليهم أحياناً، وتحول الفكر الصافي، في ظل منظومة المخابرات، إلى أيديولوجيا قاتلة، لا يسقط الحزب جراءها قتيلاً وحده، إنما الناس يسقطون قتلى هم أيضا، ولأن ماكنتها تعمل، ليل نهار، لسحق كل من يقف في طريقها، فإنها لا تستطيع أن تسمح حتى ب “فسحات صمت لالتقاط الأنفاس”، بتعبير النمساوي بيتر هاندكه، لأن ذلك يخرب عليها مخططاتها وأساليب عملها.
الحزب انشق عندها إلى حزبين، يناصب العداء أحدهما الآخر. ولاحقاً سيغيب دور الحزب، ويضمحل الفكر، وتتراكم الأخطاء والخطايا، إلى درجة أن يصيب الضرر “مشروع النهوض القومي” الذي سوف يتراجع، ويهزم في أكثر من زاوية وميدان، ويصير حال “البعث”، بعد 68 عاماً على مولده، ليس أفضل من حال بائع أواني الخزف الذي روى لنا حكايته ساراماغو، فلم يبق منه سوى بقايا عظام وجماجم، هي خلاصة العالم الذي صنعه، ويحاول اليوم الهرب منه، من دون أن يعرف كيف وأين.
أطرق قليلاً، قبل أن يمد يده لي بوثيقة صادرة عن القيادة القطرية السورية، تتحدث عن مراجعة لأوضاع الحزب، بهدف تطوير وتحديث المفاهيم التي تبناها، وأنماط التفكير السائدة داخله، ووسائل العمل التنظيمي .. إلخ، وعلق: “للأسف، إن أحداً، لا داخل الحزب ولا خارجه، في وسعه أن يوقف الانحدار الذي نعاني منه، انحدار الحزب، وانحدار البلد أيضا“.
في حينه، كانت سورية تموج بغليان تحت السطح، كان ثمة ما هو مكشوف للزائر، فالحزب الذي كان أداة تبشير بالحرية، حرية الوطن، وحرية المواطن، أصبح يهيمن على كل مفاصل الحياة في البلاد. إنك لا تستطيع أن تفعل شيئاً من دون أن يكون الحزب حاضراً، لكأنه كان يعيد تجربة صنوه في العراق التي أدت إلى سقوطه على نحو مريع، وضع البلاد في قبضة احتلالين، شعرت بما يجري، وأنا الزائر لأيام، لكنني أردت أن أسمع شهادة واحد من أبناء الحزب.
قال لي، بعد أن تلفت يميناً ويساراً، كأنه يخشى عيناً ترصده، أو أذناً تتنصت على ما يقوله، وقدّرت، من جانبي، أن هناك بالفعل عيناً ترصد، وأذناً تتنصت: حالنا اليوم تشبه حال بطل رواية (الكهف) لساراماغو، صانع أواني الخزف الذي يفاجأ بانصراف الناس عن شراء بضاعته، بعد أن تغير العالم، ولم يعد في وارد أحد استخدام هذا النوع من الأواني. يصاب باليأس، ولا يجد حلاً سوى في اعتزال الناس والعيش في كهف. وفي الكهف، يعثر على بقايا عظام وجماجم. وفي لحظة يقظة، يدرك أن تلك البقايا بقاياه هو، وبقايا الناس الذين تآلف معهم، هي، أيضاً، بقايا العالم المنهار كله. أخيراً، يفكر بالهرب بلا وجهة معروفة له، ومن دون أن يعرف أين وكيف ستنتهي به الرحلة!
طبعت وجه محدثي مسحة مرارة، قبل أن يسترسل: هكذا نحن، سجناء في كهف الحزب، باختيارنا أو باضطرارنا. وفي كهف البلد الذي خربه الحزب، نتخيل واقعاً يناسب رغباتنا، وننسى أن ما نتخيله ليس الواقع الماثل فعلاً، فقد تغير العالم، ولم يبق من عالمنا ذاك سوى بقايا عظام وجماجم، هي خلاصة ما صنعناه بأيدينا، وها نحن نحاول الهرب، من دون أن نعرف كيف وأين.
صمت، وصمت أنا، فلم يعد ثمة ما يغري بالاسترسال في الحديث، انعطفنا نحو شوارع أخرى، أزقة وأسواق ومبان، بعضها عتيق تشم فيه رائحة العفن، وبعضها حديث يتشبث بعمارة هجينة، وأناس بعضهم يمشي على غير هدى، وبعضهم يبدو وكأنه يساق إلى حتفه!
“يوشك الحزب أن يندثر، كما اندثر المقهى الذي احتضنه“
لكم تغير العالم، مرت عقود، منذ قامت حركة “البعث” بشيرا بنهوض قومي يعيد إلى الأمة حيويتها، ويرد إليها عنفوانها. كانت أحلام الوحدة والحرية والعدالة الاجتماعية تطوف في رؤوس شلة مقهى الرشيد الصيفي التي كانت تحمل الإصرار على تحقيق “انقلاب عميق، مبدع وشامل، يبعث في الأمة طاقاتها الروحية الأصيلة التي تؤهلها لبناء مستقبلٍ يكمل ماضيها، ويتجاوزه، ويتفوق عليه”. لكن، الأمور اختلفت، عندما تفرق الرواد الأول، وغاب الرهان على الفكر الذي جاءت به شلة “المقهى”، عندما أصبح الحزب سلطة تعدل بين الناس حينا، وتجور عليهم أحياناً، وتحول الفكر الصافي، في ظل منظومة المخابرات، إلى أيديولوجيا قاتلة، لا يسقط الحزب جراءها قتيلاً وحده، إنما الناس يسقطون قتلى هم أيضا، ولأن ماكنتها تعمل، ليل نهار، لسحق كل من يقف في طريقها، فإنها لا تستطيع أن تسمح حتى ب “فسحات صمت لالتقاط الأنفاس”، بتعبير النمساوي بيتر هاندكه، لأن ذلك يخرب عليها مخططاتها وأساليب عملها.
الحزب انشق عندها إلى حزبين، يناصب العداء أحدهما الآخر. ولاحقاً سيغيب دور الحزب، ويضمحل الفكر، وتتراكم الأخطاء والخطايا، إلى درجة أن يصيب الضرر “مشروع النهوض القومي” الذي سوف يتراجع، ويهزم في أكثر من زاوية وميدان، ويصير حال “البعث”، بعد 68 عاماً على مولده، ليس أفضل من حال بائع أواني الخزف الذي روى لنا حكايته ساراماغو، فلم يبق منه سوى بقايا عظام وجماجم، هي خلاصة العالم الذي صنعه، ويحاول اليوم الهرب منه، من دون أن يعرف كيف وأين.
عبد اللطيف السعدون – العربي الجديد