تعجّ رواية “بوصلة” للكاتب الفرنسي ماتياس إينار بالفنانين التشكيليين الاستشراقيين : لوحة “الحمّام التركي” لأنغر، لوحة غوستاف كوربيه “أصل العالم” التي طلبها منه خليل باشا الدبلوماسي العثماني الذي كان جامع لوحات فنية، ديلاكروا في “نساء الجزائر العاصمة” و”عربي يُسرج حصانه”… ويستدل القارىء أيضاً على أجواء الاستشراق من خلال مشاهد كثيرة في الرواية.
نادراً ما قرأت كتاباً في عشق الشرق، ككتاب “بوصلة” الذي حاز على جائزة غونكور في دورتها الأخيرة (تشرين الثاني 2015). ومن بين الحائزين على هذه الجائزة، لا بد من ذكر مارسيل بروست، أندريه مالرو، إلسا تريوليه، جوليان غراك، سيمون دى بوفوار، باتريك موديانو، مارغريت دوراس، الطاهر بن جلون، أمين معلوف، عتيق رحيمي، ميشيل هويلبيك…
وتبدأ الرواية وتنتهي في فيينا (بوابة الشرق Porta Orientis )، وتحديداً في غرفة نوم فرانز ريتير، وهو باحث موسيقي استشراقي. وبما أنه كان مصاباً بأرق شديد، فقد استذكر خلال ليلة واحدة أحداث الرواية التي تغطي 378 صفحة. وهذا يعني أن الرواية كُتبت مرتين، المرة الأولى من خلال أحداثها التي تمتد بضعة أعوام، والثانية التي استذكرها فرانز في ليلته الليلاء التي وزّعها على عشرة فصول وامتدّت من الساعة 23.10 إلى الساعة 6 صباحاً. تبدأ الرواية وتنتهي بالرباعية التي كتبها الشاعر الألماني فيلهيلم مولر (1794-1827) والتي لحّنها الموسيقي الكبير فرانز شوبير (1797-1828)، وهي الرباعية المدرجة في ديوان “رحلة الشتاء” وتقول :
“أغمضُ عينيّ،
يخفق قلبي دائماً بشدة.
متى ستخضرّ الأوراق المتدلّية على النافذة؟
متى سأضمّ حبيّ بين ذراعيّ؟” (ص 5 و 375)
وأدرج ماتياس إينار فهرساً ترصيعياً خاصاً طُبع بالحرف القوطي دعاه “في شتى أشكال الجنون بالشرق”، ضمّ “المستشرقين العشاق” (ص 91)، “قافلة المتنكّرين” (ص 145)، “الغرغرينا والسل” (ص 202)، “لوحات عن مستشرقين يتصرّفون كأمراء للمؤمنين” (ص 226)، “موسوعة الذين دُقّت رقابهم” (ص 344).
وإلى جانب النص الروائي نجد أحياناً بعض الصور الفوتوغرافية، مما يدلّ على هاجس التوثيق والدقة لدى إينار: ثمة صورتان لصفحتين من رواية “جلد الحبب” لهونوريه دى بالزاك تتضمن إحداهما في طبعتها الثانية (1837) نصاً عربياً مع ترجمته إلى الفرنسية (ص 78). وكذلك أدرج الروائي الموثِّق صورة لجريدة “الجهاد” التي أصدرتها الخارجية الألمانية عام 1917 بالعربية والتترية والروسية لخدمة الأسرى المسلمين أثناء الحرب (ص 232)، مع العلم أن الألمان هم الذين أوعزوا عام 1914 الى السلطان العثماني بإعلان الجهاد في شتى أرجاء السلطنة ضد الحلفاء. هذا بالإضافة إلى صورة لعنوان “الديوان الشرقي الغربي” (Westoesterlicher Divan) لغوته المكتوب بالألمانية والعربية مع فارق صغير بالعربية هو “الديوان الشرقي للمؤلف الغربي”. ويذكر المؤلف أن ثمة كتابين بالغي الأهمية طَبعا أدب القرن التاسع عشر وهما ديوان غوته المذكور و”الساق على الساق في ما هو الفارياق” لفارس الشدياق. وتقدير إينار لهذا الكتاب الأخير يدلّ على طول باعه في الأدب العربي الحديث (ص 323).
كيف تتجه بوصلة إينار؟ – كما تتجه بوصلة بيتهوفن، أي نحو الشرق وليس نحو الشمال كما في البوصلات العادية. إنها بوصلة الاستشراق، إنها مؤشر الابتكار أو العرفان عند السهروردي. وهذا الجانب العرفاني هو الذي افتقرت إليه دولة الخميني أو “ولاية الفقيه” التي ينعتها الكاتب بـ”البؤس”، لأن الحرس الثوري هو الذي يسرح ويمرح فيها ويمارس الشنق والخنق والقتل (ص 246)، ولا علاقة له بجلال الدين الرومي وحافظ وشيرازي والفردوسي وابن سينا وعمر الخيّام وهنري كوربان… (ص 247).
وتتوقّف الرواية عند عدد من كتّاب ومفكري القرن التاسع عشر، ومنهم الكونت جوزيف أرتور دى غوبينو (1816-1882) الذي خدم في إيران كدبلوماسي فرنسي وألف رواية “السباعيات” (1874) التي تزدري الحمقى والمبتذلين وتنادي بعزة وعظمة طبقة الأشراف الفرنسيين (مما يذكّر بأقصى اليمين المتطرف في فرنسا الآن). وتتوقف عند عدد من الموسيقيين الألمان والنمساويين والفرنسيين: باخ، فاغنر، بيتهوفن، شومان، موزارت، شوينبيرغ، ليزت، مندلسون، وصولاً إلى جوليان جلال الدين فايس الذي كان عازف قانون ألمعياً ويغنّي في فرقته “الكندي” كل من صبري مدلل وحمزة شكور ولطفي بوشناق. وتشيد بالسلطان عبد العزيز الذي كان ذا ذائقة موسيقية رفيعة تشربت بموسيقى فاغنر. وتتوقف الرواية عند نيتشه الذي كان يبغي إضفاء الألوان الموسيقية المتوسطية على الموسيقا الغربية، بعد أن حضر سمفونية “كارمن” عشرين مرّة. ولا تنسى الموسيقى الإيرانية والغجرية. أما الموسيقي بيزيه، فرأى أن الشرق يتمثل بإيطاليا، وخاصة صقلية التي أقام فيها العرب ذات يوم. وأدرك بيتهوفن أننا بالموسيقى نستطيع تقريب الشرق من الغرب وإرجاء نهاية العالم القريبة (ص 97). تتوقف عند كتاب الأميركي واشنطون أيرفينغ “حكايات قصر الحمراء” الذي أنصف فيها عرب الأندلس، بعد أن استعادها الإسبان. تتوقف عند أقوام الغجر الذين كانوا يجوبون أوروبا، وتستذكر قصة “الغجرية الصغيرة” التي كتبها سيرفانتس عام 1613 قبل أن يكتب “دون كيخوته” بسنتين. ويقول إينار إن هذه الرواية الأخيرة هي أول رواية عربية وأول رواية أوروبية، ويعزوها صاحبها إلى سيّد حامد ابن الأيل (ص 371).
وتعجّ الرواية بالفنانين التشكيليين الاستشراقيين : لوحة “الحمّام التركي” لأنغر، لوحة غوستاف كوربيه “أصل العالم” التي طلبها منه خليل باشا الدبلوماسي العثماني الذي كان جامع لوحات فنية، ديلاكروا في “نساء الجزائر العاصمة” و”عربي يُسرج حصانه”… ويستدل القارئ أيضاً على أجواء الاستشراق من خلال زيارة قام بها فرانز وسارة لمقبرة مونمارتر وتوقفا عند بعض القبور: قبر المغنية الإيطالية المصرية داليدا، الفنان الاستشراقي تيودور شاسيريو، الآثاري عثمان حمدي مكتشف ناووس صيدا والذي كان يملك عدداً من اللوحات الاستشراقية، الكاتب ماكسيم دوكان الذي رافق فلوبير إلى مصر وأيّد ثورة غاريبالدي. وفي نهاية المقبرة ينتقل فرانز وسارة من هذا الماضي الاستشراقي إلى حاضر الاستشراق، ولو منحطاً، كما بيّنته دسائسُ الأستاذ “الكبير” جيلبير دى مورغان، الذي أشرف على أطروحة سارة ــــ وعنوانها: رؤى الشرق ــــ وبطش بأحد الباحثين الفرنسيين في المعهد الفرنسي للدراسات الإيرانية في طهران، ليغتصب صديقته الإيرانية، متهماً إياهما بالتآمر على أمن الشاه رضا بهلوي، وبتأييد ثورة الخميني. “إنه فاوستوس، ولكن دون أن يحتاج ميفيستو ليبيع روحه للشر”، علّقت سارة بعد سماعها اعترافات هذا المستشرق الكبير، وأضافت : “يجب على الاستشراق أن يكون إنسانياً” (ص 313).
وتتوقف سارة ملياً عند علاقة جمهورية فايمار بالشرق، وتنوّه بالكوزموبوليتية التي تحلّى بها هيردر وفييلاند وشيلر وغوته ورودولف ستينر ونيتشه. وتنتقل بعد ذلك إلى ويلات عام 1945 التي لحقت بالمدينة ومحاولة الحلفاء طمس معالمها : السعي الى تدمير بيت غوته وأرشيف نيتشه (ص 321). ونرى بعد ذلك تهافت آلاف المجاهدين الداعشيين الذين هرعوا من أوروبا الى الشرق لإقامة دولة الخلافة الإسلامية.
ولخيبة أمل سارة ربما من الاستشراق الإيراني العربي التركي، ولفقدانها أخاها في حادث سيارة، قررت الاعتكاف في جبال الهملايا قرب دير بوذي، تابعت فيه التمارين الروحية بإشراف أحد الرهبان. وقررت اتباع ما تدلّ عليه البوصلاث الثلاث في التأمل : بوصلات بوذا والذارما والسانغا. ولكن مرشدها الروحي، بعد سنتين من الاعتكاف والتأمل، رأى أن طريقها ليس الترهب. فاستقرّت في مدينة كالكوتا المجنونة (كما قالت) ثم في ساراواك الماليزية.
وتحتدم الرسائل بين سارة وفرانز. وتقول له في إحداها : “لم تعد أوروبا قارتي… سأستكشفها كغريبة” (ص 376). وتنتهي الرواية بالكلام عن “مشرق الأنوار، والشرق، وتوجّه البوصلة، ورئيس الملائكة المضرج الخدين. يدهشنا مرمر العالم الموشّى بالألم والحب” (ص 378). ثم يسدل الستار بالرباعية الاستهلالية :
“أغمضُ عينيّ،
يخفق قلبي دائماً بشدة.
متى ستخضرّ الأوراق المتدلية على النافذة؟
متى سأضمّ حبيّ بين ذراعيّ؟”
العربي الجديد