أُصيب الشيخ أو العالم أو رجل الدين بما أصيبت به شرائح المجتمع الحالية من عدوى التحزب والتفرق والمواقف الآنية التي غطت على المواقف البعيدة المدى، فكانت السلطة للزمن على حساب الروح، وفقد كثير من العلماء والمشايخ للأسف البوصلة، ونالهم ما نالهم من فقدان الوزن الشرعي والسياسي، نتيجة ضعفهم في فهم الواقع، ضعف مردّه إلى الافتقار إلى الآليات والأدوات في فهم وفقه واقع من حيث الحيثيات والخلفيات، فاعتمدوا على غيرهم بالفهم، واستندوا لأدوات ومحللين منحازين بالأصل، فكانت النتيجة انحياز الشيخ أو العالم دون أن يدري، لمن اعتمد على معلوماته، فالنتائج هي لمقدمات، وما دامت الأخيرة بأيدي الآخرين فلا بد أن تكون الثانية لهم أيضاً.
على مدى التاريخ الإسلامي ظلت السلطة الروحية تتمتع بمزايا وفرادة قلّ نظيرها، كان من أهمها شعورها اليومي واللحظي أنها الموقعة عن الله تبارك وتعالى، فكانت جامعة تسعى إلى تعظيم الجوامع، كما خطها الأصولي الفقيه الإمام الشاطبي في كتابه العظيم «الموافقات»، ولعلّ هذا سرّ صمود المذاهب الأربعة طوال قرون، ما دام أصحابها حقاً وحقيقة موقعين عن الله تبارك وتعالى بحسب توصيف الإمام ابن القيم الجوزية -رحمه الله- في كتابه الفريد «إعلام الموقعين عن رب العالمين»، أما من آثر السلطة الزمنية والحيز الوقتي على الحيز الروحي فكان مصيره مصير غيره من السلطات التي انتهت وزالت بزوال لحظتها، فكان كمن يكتب على الثلج.
لجوء بعض المشايخ والعلماء إلى تأطير أنفسهم ضمن أُطر ومؤسسات زمنية يقف عليها متحزبون أصلاً ألحق أفدح الضرر بمسيرة العلماء والمشايخ وبالمشروع ذاته، في حين رفضت قلة قليلة من أمثال هؤلاء أن تؤطر ذاتها بأطر زمنية ذات خلفية سياسية وفكرية تحزّب الأمة، وتفرّقها وتفتتها أكثر مما تجمعها، وتعظمها، فالخلفيات الفكرية لا يمكن حسمها في جسم سياسي ولا في موقف أو موقفين، وإنما لا بد من العمل على تعظيم الجوامع، وأبلغ تعظيم لهذه الجوامع هو جامع الأمة اليوم وهو ربيعها وثوراتها التي قدمت وقوداً لها ملايين الشهداء والجرحى والمعتقلين والمشردين.
أما أن يغمس العلماء والمشايخ خارج صحن الثورة، مدفوعين بلحظة تتغير بتغير الزمان والمكان والأشخاص، ويغمسون معه خارج صحن الواقع معتمدين ومستندين إلى رواية زيد أو عمرو في حادثة بحاجة في الوقت الطبيعي إلى محكمة ابتدائية واستئنافية وتمييزية، فكيف بوضع استثنائي كالذي نحن فيه، فيبت بعضهم بالقضية ببيان سريع، لا يقوى أهل المنطقة التي وقعت فيها القضية ذاتها على الحكم عليها بهذه السرعة وهذه الحدية، فضلاً عن أن يكون أهل القضية قد حلّوا قضيتهم وتصالحوا مع بعضهم، بينما يظهر أهل العلم وكأنهم محرّشون ومحرضون وحاشاهم، بل وملكيون أكثر من الملك ذاته..
كل هذا مردّه إلى أن العلماء الذين كان ينبغي أن يقودوا المشروع أصبحوا ينقادون من قبل شخصيات حزبية أو سياسية، خدمة لمشروع تجزيئي حزبي محدود، حتى ولو أدّى هذا المشروع إلى سقوط دماء وضحايا وحرف للبوصلة عن الجادة، والأغرب من هذا كله أن تجد دولاً تتفهم مصلحة الأمة، فتهادن من يهاجمهم المشايخ والعلماء ومجالسهم، وتتعاون معهم وتنسق وإياهم، بينما مجالس المشايخ والعلماء تصر على العكس.
نقلا عن العرب _ احمد موفق الزيدان