ليست سورية، في ذاتها، بلداً غنياً بالنفط، أو بالثروات الاستراتيجية، كما حال العراق وليبيا مثلاً، ولكن الاقتتال الدولي الدائر بشأن سورية يعود إلى عدة عوامل سياسية معقدة ومختلفة، يتعلق بعضها بالتاريخ القريب لمنطقة الشرق الأوسط.
بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، الشرق الأوسط هو كابوس الفوضى الذي يلقي بثقله على العالم بأسره، خصوصاً أن سياسات الولايات المتحدة، في السنوات الخمس عشرة الأخيرة، كانت سبباً رئيسياً في اختلال هذا التوازن، لا سيما احتلال العراق عام 2003 وما تلاه من عودة للطائفية والمذهبية والتشدّد الديني، وتشكل نوى مهمة للحركات السلفية الجهادية. أسفرت المطامح الأميريكية في “شرق أوسط جديد” إلى كارثةٍ دولية، ولا شك أن الولايات المتحدة تسعى إلى أن تكون صاحبة الكلمة الفصل في استقرار الشرق الأوسط وراعية السلام الذي يضمن مصالحها وتثبيت حلفائها، شرط عدم تكرار تجربتها المكلفة في العراق، والاكتفاء بسياسة “الأيدي الناعمة”، من دون التورّط في حربٍ حقيقية على الأرض.
أما روسيا التي اكتفت بوضع العصي في عجلات المجتمع الدولي، في السنوات الأولى من عمر الثورة السورية، واستثمرت في تطبيق الضغط السلبي على الملف السوري وعرقلة أي جهود أميركية أو أوروبية، خوفاً من تكرار خسارتها السياسية التي منيت بها في ليبيا، فإنها، منذ الأزمة الأوكرانية، تحولت إلى الضغط الإيجابي السافر سياسياً وعسكرياً.
مع التجاهل الأميركي لروسيا، وتركيز الجهود لإنهاء الاتفاق النووي مع إيران، تحولت إيران، أخيراً، من دولة “مارقةٍ” إلى عضو في المجتمع الدولي، وجزء من طاولات الحوار. تسبب ذلك بالقلق لروسيا، لا سيما أن إيران (على عكس روسيا) موجودة في الأراضي السورية عسكرياً. لذا، قدرت روسيا أن الضغط السياسي الذي تمارسه غير كافٍ لتثبيت قدميها في الشرق الأوسط، فأتبعته بدخول عسكري إلى الأراضي السورية، بدايةً بإرسال “مستشارين عسكريين”، مروراً بتثبيت قواعد عسكرية ومكاتب استخباراتية مشتركة، وصولاً إلى تصويت البرلمان الروسي، أخيراً، لصالح بقاء الجيش الروسي في سورية إلى أجل غير مسمى. ليست سورية بالنسبة لروسيا هدفاً بعينه، وإنما وجودها في الشرق الأوسط عسكرياً هو الضامن لعودة مصالحها “الإمبراطورية” في الشرق الأوسط، خصوصاً مع يقينها بانكفاء الولايات المتحدة عن التدخل العسكري الصريح.
وبالنسبة إلى التدخل الإيراني في سورية، والذي يقع في مقدمته وجود حزب الله، فإنه يجعل
“قد تغدو سورية حصيلة تصفية الحسابات الدولية بأسرها، وهذا يعني أن الحرب ستطول كثيراً” إيران في موضع المساوم لتمرير الاتفاق النووي القلق. وبغض النظر عن نتائج هذه المساومات، فقد حزب الله ترف الخيار منذ زمن طويل، ولم يعد قادراً على الانسحاب من سورية، إذ لن تقتصر نتائج هذا الانسحاب على الساحة السورية وحسب، وإنما ستمتد إلى لبنان، وتعيد نبش الملفات العالقة، منذ إعلان “بعبدا”، والاتهامات التي طالت حزب الله، لتفرّده بالقرار، ووضع لبنان بأكمله في فوهة المدفع، وتجاهل موقف “النأي بالنفس” الذي أعلنه لبنان رسمياً.
تقع مسؤولية الانقسام السياسي اللبناني، جزئياً على الأقل، على حزب الله وموقفه من الحرب في سورية، ونتائج هذا الانقسام ماثلة اليوم، بعد مرور عامين ونيف على الفراغ الرئاسي في لبنان. ومهما كان مقدار الضغط الدولي على إيران (وقد تضمن تمديد تجميد الأموال الإيرانية والتشكيك في قدرة إيران على الالتزام بالاتفاق النووي، وأحياناً التلويح بالتراجع عنه)، فإن الوضع العسكري لإيران على الأرض لم يعد قابلاً للتفاوض. وعليه، هذه المعركة هي معركة حياة أو موت.
بناءً على هذه العوامل السابقة، وغيرها مما لا يمكن الخوض فيه هنا، يبدو أن جميع الأطراف الدولية انخرطت في أزمةٍ أكبر من أي طرفٍ فيها، ما يحتم على جميع الأطراف الانهماك في تخطيط “استراتيجية خروج” من المنطقة ببعض المكاسب وأقل ما يمكن من الخسائر. ليست هناك مؤشرات توحي بقدرة أي طرفٍ على السيطرة المطلقة، عسكرياً أو سياسياً. لذلك، لا بد من إعادة صياغة التحالفات السياسية بشكلٍ يوحي بالقدرة على احتواء الأزمة السورية. شيء من هذه التحالفات السياسية قائم بين روسيا وإيران مثلاً، كما أن تركيا تلعب دوراً وسيطاً مهماً على الحافة بين حلف الأطلسي وروسيا. لدى تركيا ملفات كثيرة عالقة في المنطقة أيضاً، بداية بأزمة اللاجئين السوريين في تركيا وصولاً إلى رغبتها بالسيطرة على المناطق الكردية السورية، بحجة الحاجة إلى منطقة آمنة. ومن المحتمل أن تتقدم الطموحات التركية بلا حدود، إذا تطابقت مع رغبة أميركية بأن يخوض طرف آخر حربها بدلاً عنها.
هذا البلد الصغير المسمى سورية، على الرغم من مساحته الصغيرة، وأهميته الاقتصادية الضئيلة نسبياً، قد يغدو حصيلة تصفية الحسابات الدولية بأسرها، وهذا يعني أن الحرب ستطول كثيراً.
العربي الجديد – لورين محمد