أهم الأسباب التي لأجلها سمي لبنان بسويسرا الشرق، كانت بسبب الطبيعة الخلابة التي جعلته وجهة سياحية مميزة واستثنائية، ومناخ الحريات الذي جعله مركزاً للإبداع الفني والإعلامي والأدبي، ونظام مصرفي متطور يحميه قانون يضمن السرية ويحقق الرقابة المالية.
اليوم تتفتت المنظومة السياحية وتنهار، فتتردى الخدمات، وتهاجر الأموال، ويتم تقييد الحريات بشكل غير مسبوق وغير معتاد بالنسبة لطبيعة لبنان… اليوم يبدو أن انهيار النظام المصرفي في لبنان مسألة وقت لا أكثر، والمسألة هنا لا تتعدى إفلاس بنوك أو تعثرها فحسب، ولكن المقصود هنا تحديداً انتفاء الثقة تماماً بالمنظومة المصرفية.
منذ أيام قام رجل الأعمال الأردني المعروف طلال أبو غزالة، برفع قضية على أحد أكبر المصارف اللبنانية يتهمه فيها بتبديد الأموال والتحايل، وهي سابقة خطيرة جداً، ومن المتوقع ألا تكون الأولى والأخيرة من نوعها، وعلى الأرجح سيكون هناك سيل متدفق من القضايا ذات الطبيعة نفسها من مجاميع المتضررين. ليست هذه الأزمة الأولى التي واجهت القطاع المصرفي في لبنان، فهناك أزمة الأشهر المتعلقة ببنك إنترا ومؤسسه المصرفي الفلسطيني الأصل يوسف بيدس، واستمرت بعد ذلك مع روجيه تمرز، وقد تطرق لهذا الموضوع بشكل موسع الكاتب الكندي اللبناني كمال ديب في كتابين منفصلين. ولعبت البنوك اللبنانية دوراً مثيراً للجدل خلال أحداث الحرب الأهلية الدامية التي استمرت لأكثر من عقدين من الزمن، كانت فيها الأداة التي مكنت أمراء الحرب وملوك الطوائف ورجال السلطة، وفقدت معها مكانة لبنان كمركز صناعة البنوك والمصارف في الشرق الأوسط، لتنتقل المصارف العالمية من بيروت إلى البحرين التي وفرت المنظومة البديلة مدعومة بقانون مصرفي قوي وبنك مركزي مستقر.
بعد الحرب الأهلية اللبنانية دخل الاختراق المصرفي في لبنان المرحلة الأهم والأدق والأخطر، عندما تحول الكثير منها إلى «وعاء» لاحتواء الأموال المشبوهة والقذرة لتنظيم «حزب الله» الإرهابي أو لنظام الأسد وعملائه، وباتت عمليات تمويل صفقات المخدرات وتهريبها، وصفقات السلاح والنفايات الكيماوية والصفقات الفاسدة تفوح رائحتها لتسقط بنوك مثل «المدينة» و«اللبناني الكندي» وأخرى غيرهما. ولم تكتفِ المنظومة المصرفية في لبنان بتغاضي النظر عن الحسابات المشبوهة للأفراد، ولكنها غضت النظر عن حسابات مالية لمؤسسات وشركات معروفة وكبيرة جداً عرفت بأنها «واجهة» لغسل أموال تنظيم «حزب الله» الواردة من غرب أفريقيا وإيران وأميركا الجنوبية من خلال شبكة معقدة لأنصار ومحاسيب الحزب الإرهابي.
انهيار الثقة التامة في المنظومة المصرفية اللبنانية، التي كانت من أهم عناصر القوى اللبنانية الناعمة، يعتبر خسارة فادحة جداً من الصعب تعويضها بعد سنوات من التعزيز والبناء. ولذلك يبدو ما يطرحه زعيم تنظيم «حزب الله» الإرهابي حسن نصر الله من «حلول» اقتصادية ومالية، أمراً هزلياً، ولكنه يسير في المنهجية نفسها التي بدأ فيها منذ اليوم الأول لظهوره، وهي تدمير النموذج اللبناني بجميع خصائصه ومزاياه ليبدل به نظاماً «مسخاً» و«قبيحاً» لا يشبه لبنان في أي شيء.
النظام المصرفي القوي، هو من أهم دعامات الدولة العصرية، وأهم عناصر ذلك وجود «الثقة» بهذا النظام، التي من الواضح أنها تبخرت. انهيار التميز الاقتصادي والمالي في لبنان ليس وليد الصدفة، وإفقار الشعب كان نتيجة حتمية وطبيعية ومتوقعة لذلك المشروع الخبيث، الذي روج له تنظيم «حزب الله» الإرهابي منذ ولادته، لا يستغربها إلا من كان في حالة إنكار حادة.
المشهد اللبناني وتداعياته، والمرشح للمزيد من التدهور لن يتغير إلا باجتثاث المشكلة من جذورها، وعودة لبنان إلى ما كان عليه من قبل، لأن سويسرا نفسها ما وصلت إلى المجد الذي وصلت إليه تحت قيادة زعيم تنظيم إرهابي.
نقلا عن الشرق الأوسط _ حسين شبكشي