وجد بيطار نفسه بمواجهة الحلقة الأقوى والأصعب في لبنان المتمثّلة بأمين عام “حزب الله” حسن نصرالله الذي اعتبر للمرّة الثانية أنّ التحقيق مسيّس!
بعد مرور أكثر من عام على مجزرة انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب/ أغسطس 2020، لم تصل التحقيقات بعد إلى نتيجة فعليّة، في ظلّ التعقيدات والمعوقات السياسيّة التي تصعّب مهمات القاضي طارق البيطار الذي وجد نفسه في مواجهة عنيفة مع كارتيل السلطة اللبنانيّة المافويّة التي كانت تعلم بوجود النيترات في المرفأ وخطورتها.
وجد بيطار نفسه بمواجهة الحلقة الأقوى والأصعب في لبنان المتمثّلة بأمين عام “حزب الله” حسن نصرالله الذي اعتبر للمرّة الثانية أنّ التحقيق مسيّس، وذلك بعد استدعاء بعض الشخصيّات السياسيّة “المحصّنة” إلى القضاء. من جديد شدّد نصرالله على حمايته منظومة الفساد والقتل في لبنان ووقوفه في وجه المحاسبة وتحقيق العدالة لأهالي الضحايا.
ولكن اللبنانيّين، لا سيّما أهالي ضحايا الانفجار، مصرّون على المضي مع القاضي بيطار للكشف عن ملابسات الجريمة وتحقيق العدالة لكلّ ضحاياهم ولمدينة بيروت التي لم تستيقظ بعد من هول الفاجعة. وفي هذا الوقت، يتولى الإعلام اللبناني والأجنبي المساهمة في كشف تفاصيل جديدة تتعلّق بالانفجار. فما هي المستجدّات الأخيرة في التحقيق؟
المعطيات الأخيرة
عرض الصحافي الاستقصائي فراس حاطوم وزملاؤه في تلفزيون الجديد، تحقيقاً جديداً في سياق سلسلة “بابور الموت”. يكشف التحقيق عن علاقة شركة بريطانيّة اسمها geo Spectrum بباخرة “روسوس” وذلك بعد اطّلاع فريق التحقيق على العقد “الغامض” بين وزارة الطاقة اللبنانيّة و”جيو سبكتروم” الذي يعود تاريخه إلى عام 2012. فالشركة وقّعت عقداً مع وزارة الطاقة في 30 آذار/ مارس 2012، بهدف إجراء مسوحات زلزاليّة للتنقيب عن النفط والغاز في لبنان، وبعدها التقى وزير الطاقة السابق جبران باسيل مع وزير خارجيّة بريطانيا السابق ويليام هيغ في 22 شباط/ فبراير 2013 مع خبراء من الشركة البريطانيّة.
الّا أنّ الشركة البريطانيّة لم تكتفِ بقدراتها لا بل استعانت بشركة أردنيّة تُدعى GSC، تمّ تكليفها بتأمين آليات ومعدّات المسح الزلزالي. وعندها أرسل باسيل رسالة إلى المديريّة العامّة للجمارك لطلب إدخال موقّت لآليات ومعدّات المسح الزلزالي للشركة الأردنية، بناءً على التكليف من الشركة البريطانية والعقد الموقّع مع وزارة الطاقة.
وجد القاضي طارق بيطار نفسه في مواجهة عنيفة مع كارتيل السلطة اللبنانيّة المافويّة التي كانت تعلم بوجود النيترات في المرفأ وخطورتها.
وبحسب حاطوم “في تشرين الثاني من العام نفسه أي بعد نحو 7 أشهر فقط، أنهت جيو سبكتروم عملها فلم يجد من تولّى مهمّة إعادة المعدّات المستأجرة إلى مرفأ العقبة سوى سفينة… تدعى روسوس”.
وكان الوكيل البحري للسفينة الموكّل من قبل الشركة الأردنيّة هو مصطفى بغدادي الذي بحسب فريق التحقيق في الجديد متواجد حاليّاً في لبنان ومن المرجّح أنّه أكثر من يعلم بخبايا الأمور، فهل استمع القاضي بيطار لأقواله؟!
فبحسب التحقيق، على كلّ وكيل بحري أن يقدّم ما يُعرف بالـ”موحّدة” التي يرفق فيها المعلومات عن الباخرة والحمولة التي تحملها ويتضمّن ذلك نوع الحمولة. ويتمّ توزيع هذه الموحّدة والوثيقة المرفقة على كلّ الأجهزة الموجودة في مرفأ بيروت، من ضمنها الجيش اللبناني الذي يجب، بموجب القرار 1701، أن يبلغ قوات الـUNIFIL الموجودة في البحر عن الحمولة. وهنا تُطرح الأسئلة، هل ملأ البغدادي الموحّدة وأرفق المعلومات حول حمولة السفينة؟ هل تمّ الاستماع للبغدادي وإذا لم يحدث ذلك بعد، متى سيتمّ استدعاؤه؟ وهل أبلغ الجيش قوات اليونيفيل؟
وفي سياق آخر، تبيّن أنّ الشركة الأردنية GSC توقّفت عن العمل منذ سنوات عدّة، إلّا أنّ اسمها ما زال مسجّلاً في بريطانيا. هذا فضلاً عن أنّ الشركة البريطانيّة تمّ دمجها مع شركة بريطانيّة أخرى اسمها TGS عام 2019. إلّا أنّ الاتفاقيّة الموقّعة بين الشركة البريطانيّة ووزارة الطاقة اللبنانيّة تنصّ على أنّ الشركة هي المشغّلة وبالتالي فهي تتحمّل مسؤوليّة أي خطر أو ضرر. فالفقرة الأولى من البند الثالث تنصّ على التالي: “يتحمّل كل فريق المسؤوليّة عن أعماله وعقوده وأخطائه ومخالفاته بما خصّ الأطراف الثلاثة ويتحمّل كامل المسؤوليّة وحده عن الأعمال المذكورة والمخالفات والأخطار وأيّة عواقب قام أو قاموا بها، على أن يبقى حق الوزارة بالمطالبة بأي تعويضات منصوص عنها هنا”. وبالتالي لماذا لم يُسلّط الضوء بعد على هذا الموضوع قضائيّاً ولماذا لم يستدعي القضاء الشركة حتى اللحظة؟
ولا بدّ من التذكير هنا بأنّ FBI كان أعلن أنّ المواد المتفجّرة، خلافاً للاعتقاد السائد، تبلغ 500 طن أي أن هناك 2200 طن مجهولة المصير.
التحقيقات السابقة كانت كشفت عن احتمال ارتباط رجل الأعمال الروسي- السوري جورج حسواني بشحنة نيترات الأمونيوم. فدُفع لمصنع المواد الكيماوية Rustavi Azot في جورجيا، مبلغاً ماليّاً مقابل 2750 طناً من المتفجرات، لكن Fábrica de Explosivos Moçambique) FEM)، الشركة التي قامت بطلبها ظاهرياً من خلال شركة Savaro Limited، لم تستلمها مطلقاً. ولكن تبيّن لاحقاً أنّ المشتري ليس FEM، بل شركة Savaro نفسها المسجّلة في لندن. ويُظهر عقد البيع تاريخ الشراء في 10 تموز/ يوليو 2013، عندما كانت الحرب السورية في ذروتها، وفقاً لـ Foreign Policy.وتبيّن من خلال سجل الشركات في المملكة المتحدة أن عناوين Savaro Limited، متطابقة مع العقارات التي كان يملكها أو يديرها رجل الأعمال السوري والأخوان مدلّل وعماد خوري، وجميعهم يحملون الجنسيتين السورية والروسية ويخضعون للعقوبات الأميركيّة والأوروبيّة.فعماد خوري كان رئيس شركة .IK Petroleum Industrial Co، حتى استقالته عام 2016. وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية، حاول مدلّل خوري تزويد نظام بشار الأسد بنيترات الأمونيوم عام 2013، وهو العام الذي وصلت خلاله شحنة نيترات الأمونيوم إلى لبنان، وهذا ما يفترض سيناريو واقعيّاً ومنطقيّاً لوجهة شحنة الأمونيوم التي وصلت “من طريق المصادفة” إلى مرفأ بيروت.وفي وقت لاحق، عوقب عماد خوري أيضاً لمساعدته في أنشطة أخيه التجارية. كما يتطابق عنوان IK Petroleum Industrial مع أحد عناوين Savaro Limited. |
الحصانات والخطوط الحمر!
أبرز ما أحدث بلبلة وعرقلة في مسار التحقيق هو استدعاء البيطار كلّاً من النائب علي حسن خليل (وزير سابق) وغازي زعيتر (وزير سابق) ويوسف فنيانوس (وزير سابق) والنائب نهاد المشنوق (وزير سابق)، إضافة إلى عباس إبراهيم (مدير عام الأمن العام) ومدير عام أمن الدولة طوني صليبا، وما يتبع ذلك من ضرورة رفع الحصانات.
فسرعان ما “علا الصوت” اعتراضاً على استدعاءات البيطار، فمثلاً “طافت” طريق المطار بصور اللواء عباس ابراهيم باعتباره “أنبل الناس”، وإن كان لذلك أي دلالة فهو على رفض إبراهيم المثول أمام القضاء. وهنا تكمن مشكلة القضاء اللبناني الذي بدلاً من أن يكون فوق الجميع، هو عرضة للانتهاكات السياسيّة الدائمة.
وجاء خطاب الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله الأخير في 7 آب 2021، ليتوّج مساعي عرقلة التحقيق من خلال الادّعاء بأنّ التحقيق “مسيّس”، من دون أن يقدّم أيّ أدلّة على ذلك… فلماذا يقدّم السيّد أدلّة ولمن، وهو الآمر الناهي في دولة اللاعدالة وغياب القانون؟!
إلّا أنّ تحقيق حاطوم الأخير يسلّط الضوء أيضاً على علاقة جبران باسيل بالقضيّة، فألا يعدّ باسيل أحد المسؤولين الذين يجب التحقيق معهم أو الاستماع إليهم؟
“كلّهم مسؤولون” وكلّنا متمسّكون بالمحاسبة!
في هذا السياق، لا بدّ من التشديد أكثر وأكثر على تحقيق منظّمة “هيومن رايتس ووتش” عن انفجار 4 آب تحت عنوان “قتلونا من الداخل” (3 آب 2021) الذي أشار إلى مسؤوليّة الجميع في الكارثة التي حلّت على لبنان، وأثبت من جديد أنّ “كلّهم كانوا يعلمون”. وهم اليوم يتشاركون مهمات تقويض التحقيق، بحيث “أدت مجموعة من العيوب الإجرائية والنظامية في التحقيق المحلي إلى جعله غير قادر على تحقيق العدالة بشكل موثوق. وتشمل هذه العيوب عدم استقلال القضاء، وحصانة كبار المسؤولين السياسيين، وعدم احترام معايير المحاكمة العادلة، وانتهاكات الإجراءات القانونية الواجبة”، بحسب تقرير المنظّمة الذي اعتبر أنّ التحقيق المحلّي الذي سمحت به السلطات اللبنانيّة مقيّد بعناية.
إلّا أنّ اللبنانيّين اجتمعوا في ذكرى 4 آب بمسيرات وتجمّعات حاشدة لتأكيد وحدة الصفّ والتمسّك بتحقيق العدالة ومحاسبة المرتكبين، من أكبر “موظّف” في هذه الدولة (أي الرؤساء والوزراء والنوّاب) إلى أصغرهم. وعقب خطاب نصرالله الأخير، نظّم أهالي ضحايا الانفجار مسيرة توضح تمسّكهم وجميع اللبنانيّين بمجرى التحقيق برئاسة القاضي البيطار في وجه الاتهامات والتصدّيات التي تحاول تبديد دماء الضحايا الأبرياء حتى تحقيق العدالة.
نقلا عن وكالة درج