دعوة رئيس الوزراء البريطاني لقبول عقد الزواج الجديد مع أوروبا تظل محل جدل لا يتوقف خاصة وأن الاتحاد سيخسر الكثير في حال خروجها.
لطالما اعتبر الاتحاد الأوروبي، على مدى سنوات طويلة، النموذج الأمثل لظاهرة الشراكة الإقليمية المتميزة، وكثيرا ما اتخذ رمزا للدلالة على إمكانية الاتحاد رغم وجود مجموعة من اللغات والثقافات والسياسات المتباينة، لكن يبدو أن هذه الظاهرة مهدّدة بانفراط عقدها في حال كانت نتيجة الاستفتاء المقرر إجراؤه يوم 23 يونيو القادم في بريطانيا لصالح خروجها من الاتحاد الأوروبي.
الصورة، ببساطة، كما رسم ملامحها رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، هي أن بريطانيا ستكون مع الاتحاد الأوروبي في الأمور التي تفيدها وتحقق مصالحها، وستبقى خارج التزاماته في الأمور التي لا تناسبها، ولا تحقق تطلعاتها.
ومن ثمة، دعا كاميرون مواطنيه الجمعة 19 فبراير الحالي، بعد مفاوضات ماراثونية في العاصمة البلجيكية بروكسل، إلى قبول اتفاق جديد مع أوروبا، والتصويت لصالح استمرار بريطانيا في الاتحاد الأوروبي في الاستفتاء الذي سيتم في 23 يونيو من العام الجاري.
هذه هي الصورة العامة، أما التفاصيل فهي كثيرة وواسعة بقدر اتساع العلاقة بين بريطانيا وشركائها الأوروبيين. ومن أبرزها أن بريطانيا ستظل خارج منطقة اليورو، التي تضم حاليا 19 دولة، وستحتفظ بالجنيه الإسترليني.
كما يضمن الاتفاق الجديد حماية الخدمات المالية التي تقدمها لندن، وهي أكبر مركز مالي في أوروبا، من أي تشريعات أوروبية يمكن أن تؤثر عليها. علاوة على حماية الشركات البريطانية من أي تمييز في معاملاتها التجارية مع منطقة اليورو بسبب استخدام العملة البريطانية.
وعلاوة على ذلك، فإن الاتفاق الجديد يعطي بريطانيا الحق في منع مواطني الاتحاد الأوروبي الذين يبحثون عن عمل في بريطانيا من الحصول على مساعدات مالية من الدولة لمدة أربع سنوات، وذلك استجابة لشكوى الكثير من البريطانيين من حصول الوافدين الجدد من أوروبا، خاصة من شرق أوروبا مثل بولندا ورومانيا وبلغاريا، على معونات حكومية بعد وصولهم إلى بريطانيا بفترة بسيطة.
غير أن كاميرون اضطر إلى تقديم تنازلات في هذا المجال لشركائه الأوروبيين بسبب اعتراض بولندا، وانتهى الأمر بأن منع المعونات سيستمر لمدة سبع سنوات فقط، فيما كان كاميرون يتطلع لأن يبقى لمدة 13 سنة.
وصحيح أن كاميرون قدم بعض التنازلات عما كان يتطلع إليه في هذا الاتفاق، لكن صحيح أيضا أن الأوروبيين قدموا بدورهم تنازلات، وقبلوا بوضع خاص لبريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي، الذي يضم حاليا 28 دولة، وبشكل يصعب تخيّل تكراره مع دولة أوروبية أخرى.
ولكن السؤال هو لماذا حرص الطرفان، بريطانيا والاتحاد الأوروبي، على الوصول إلى صيغة زواج جديد، حتى لو بدا مجرد “زواج مصلحة” لا يحمل الكثير من الدفء والحماس؟
احتياج متبادل
الاتحاد الأوروبي سيخسر الكثير بلا شك إذا خرجت بريطانيا منه، إذ تمثل بريطانيا ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد بعد ألمانيا، كما أن الدول الثلاث الكبرى في الاتحاد، ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، تعمل معا في الكثير من الملفات السياسية الهامة، سواء على المستوى الأوروبي أو الدولي. وعلاوة على ذلك، فإن خروج بريطانيا سيغير موازين القوى النسبية بين الدول الرئيسية في الاتحاد، وستبقى القيادة أساسا بين ألمانيا وفرنسا.
ونظرا لأن ألمانيا هي القاطرة التي تقود اقتصاد أوروبا، فإن فرنسا ستصبح الشريك الأضعف إذا اقتصر الأمر عليها مع ألمانيا. ولعل هذا ما يفسر حرص الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند على استمرار بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، بخلاف الموقف التاريخي للزعيم الفرنسي الراحل شارل ديغول الذي رفض مرتين انضمام بريطانيا إلى السوق الأوروبية المشتركة في عامي 1963 و1967.
وتدعم ألمانيا أيضا بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي نظرا لتقارب المواقف بين البلدين في قضايا هامة، مثل برامج التقشف المالي التي تتبناها برلين. وتبدو بريطانيا، ودول شمال أوروبا عموما، أكثر توافقا مع برلين في السياسات المالية مقارنة بدول جنوب أوروبا. هذا علاوة على أن حاجة ألمانيا للتنسيق مع بريطانيا في الملفات الهامة خارج أوروبا، مثلما حدث في المباحثات حول الملف النووي الإيراني.
الإسترليني يتراجع بعد تأييد رئيس بلدية لندن للخروج
هبط الجنيه الإسترليني أمام الدولار بعدما انضم رئيس بلدية لندن بوريس جونسون إلى معسكر المطالبين بانفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، وهو ما أدى إلى تنامي المخاوف من أن خروج بريطانيا من الاتحاد أصبح خطرا حقيقيا.
وبعدما توصل رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون إلى اتفاق مع الاتحاد الأوروبي يتيح له محاولة إقناع البريطانيين بالبقاء داخل التكتل في الاستفتاء المقرر إجراؤه في 23 يونيو، فإن تحرك جونسون مع عدد قليل من كبار أعضاء حزب المحافظين الحاكم حفّز موجة بيع للجنيه الإسترليني في آسيا.
وتراجع الإسترليني 1.5 بالمئة ليصل إلى 1.4175 دولار مسجلا أدنى مستوياته في ثلاثة أسابيع. وإذا استمر الانخفاض فسيشكل ذلك أكبر هبوط في يوم واحد خلال 11 شهرا.
وبلغت المراهنات على هبوط الإسترليني على مدى الستة أشهر القادمة أعلى مستوياتها فيما يزيد عن أربع سنوات.
وعلى الصعيد الأمني حذرت وكالة الشرطة الأوروبية (يوروبول) الاثنين من أن بريطانيا ستكون أكثر عرضة للاعتداءات والجريمة المنظمة إذا قررت الخروج من الاتحاد الأوروبي.
وقال مدير “يوروبول” البريطاني روب وينرايت على هامش مؤتمر صحافي في لاهاي حيث مقر المنظمة “ألاحظ أن المملكة المتحدة تعتمد بشكل واضح جدا على الاتحاد الأوروبي في ما يتعلق بأمن مصالحها”.
وعلى الجانب الآخر، فإن بريطانيا لا يمكنها أن تبقى خارج السوق الأوروبية الموحدة، أكبر تجمع اقتصادي في العالم، الذي يستهلك نحو 51 بالمئة من صادرات السلع البريطانية، أو نحو 45 بالمئة من صادرات بريطانيا إجمالا إذا أضفنا صادرات الخدمات، مثل السياحة والنقل والخدمات المالية. كما أن نجاح بريطانيا في جذب الكثير من الاستثمارات الأجنبية يرجع، على الأقل في جزء منه، إلى أن المستثمرين يتمتعون بفرص بيع منتجاتهم في كامل السوق الأوروبية الموحدة، وليس السوق البريطاني فقط.
وهذه ميزة هائلة بلا شك لكل الدول التي تتمتع بعضوية السوق. ولا يبدو منطقيا ما يقوله المطالبون بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهو أن ارتباط بريطانيا بالسوق الأوروبية يمنع تمددها لأسواق أخرى كبيرة، خاصة الصين والهند. وعلى سبيل المثال، فإن صادرات ألمانيا للصين تبلغ في الوقت الحالي ثلاثة أمثال صادرات بريطانيا.
وإذا كان منتقدو الاتحاد الأوروبي يرون أن بريطانيا تخضع للكثير من القواعد الأوروبية، فإنها ستستمر في الالتزام بهذه القواعد طالما استمرت في التمتع بعضوية السوق الموحدة. وهنا يمكن النظر إلى نموذجي النرويج وسويسرا، اللتين لا تتمتعان بعضوية الاتحاد الأوروبي، ولكنهما تلتزمان بأغلب القواعد الأوروبية بسبب عضويتيهما في السوق الموحدة.
وكل هذا يعني أن بريطانيا لو قلّدت النرويج أو سويسرا ستخضع لأغلب القواعد الأوروبية دون أن يكون لها دور في صياغتها، وستفقد تأثيرها السياسي على أوروبا، وهذا يخالف ما حاولت بريطانيا القيام به عبر تاريخها الطويل. إذ دخلت بريطانيا في عدة حروب لمنع انفراد ألمانيا أو فرنسا بالسيطرة على أوروبا.
اسكتلندا تهدد بالانفصال
مشكلة أخرى تواجه من يطالبون بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهي إمكانية انفصال اسكتلندا. إذ يبدو المزاج العام في أدنبرة وغلاسكو مختلفا كثيرا عن لندن تجاه الموقف من عضوية الاتحاد الأوروبي.
وعلى النقيض من الخلاف القائم بين السياسيين في إنكلترا حول البقاء في الاتحاد الأوروبي، فإن أغلبية واضحة من الاسكتلنديين تطالب بالبقاء في الاتحاد الأوروبي. وكما أوضحت الوزيرة الأولى في اسكتلندا، نيكولا ستيرجون، زعيمة الحزب القومي الاسكتلندي، إذا تم التصويت لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فإنه “تقريبا من المؤكد”، بحسب وصفها، أن يتم الاستفتاء مجددا على استقلال اسكتلندا، وذلك لأن الاسكتلنديين لن يقبلوا بالخروج من الاتحاد الأوروبي “رغما عنهم”.
وفي ذات الوقت من الواضح أن تيارا قويا في إنكلترا يطالب بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تقوده مجموعة من السياسيين البارزين، من بينهم وزراء في حكومة كاميرون قرروا أن ينتهجوا نهجا مخالفا له، ومن بينهم عمدة لندن، بوريس جونسون، وهم يرون أن بلادهم ستتخلص من أعباء كثيرة بخروجها من الاتحاد الأوروبي، مثل أعباء المهاجرين وقيود اللوائح الأوروبية، وستمتلك قرارها بشكل أفضل.
وتظل دعوة كاميرون لقبول عقد الزواج الجديد مع أوروبا محل جدل لا يتوقف. أوروبا من جانبها قدمت كل ما تستطيع لكي يستمر هذا الزواج، لكن لا يمكن أن يستمر الحب من طرف واحد. ولا بد أن يختار البريطانيون: إما الطلاق، وإما عقد زواج جديد، ولو كان مجرد “زواج مصلحة”.
العرب