القاعة المسماة مرسم في كلية الهندسة في دمشق لها بابان يفتحان على الممر، أحدهما في المقدمة وهو المفتوح والمستعمل، والثاني في نهاية القاعة مغلق بالقفل.
وفي أحد امتحانات السنة الرابعة، عام ١٩٩١، اختار المرء الجلوس بجانب الباب المغلق في نهاية القاعة، فالكل يختار طاولته حسب الأسبقية، وبعد أن وضعت أقلامي وأدواتي وحاسبتي، خطر للمرء زيارة الحمام، تحسّباً، فقد شرب شاياً كثيراً، و منذ الطفولة علق في أذهاننا أن شرب الشاي غير محمود العواقب ليلاً وفي الأزمات، وحين عدت تفاجأ المرء بوجود طالب يجلس على الطاولة التي كان قد حجزها ، وكان هذا الدخيل مشغولاً بالتحدث مع طالب آخر أمامه، كانت أغراضي موضوعة على زاوية الطاولة، فعندما اقتربت من هذا الغاصب، وبدون أن يلتفت إلي، قال: “روح أقعد هنيك!!” وأشار بيده إلى الطاولات الفارغة في مقدمة القاعة!.
وأحسست بأحدهم يربت على كتفي ثم قال: “تعال هذه طاولة فارغة”.
أزحت اليد عن كتفي بدون أن التفت لصاحبها، ففي مثل هذه اللحظات التي نعرفها جميعاً، وواجهناها جميعاً في سوريا بشكل أو بآخر، يخطر ببال المرء ألف خاطر، لكن أهمها أن هذا شخص خاص، وغالباً مدعوم! فأجبته بكل هدوء: لوسمحت هذا مكاني،و إن كنت بحاجته فيجب أن تستأذن مني أولاً!!
فأجاب فوراً: انقلع ولاك !!
في هذه اللحظة، مددت يدي لأمسك ياقة التيشيرت الذي يرتديه، رغم عدم وجود ياقة، لأسحبه من مكانه، لكن يدي لم تصل إليه، فقد ضربها بكل قوته، ونهض عن الكرسي وهجم عليّ، ليدخل فوراً الطلاب الآخرون بيني وبينه، فأخذ يشتمني وهو يحاول ضربي، ورددت له الشتيمة وقفزت كي أضربه من فوق رؤوس المتدخلين، في تلك اللحظة أحسست بقبضة قوية، تمسكني من تحت إبطي، وكأن أزميل حديد يضغط تحت إبطي ويؤلمني، يدٌ أخرى تمسك حزام البنطلون من الخلف، وتسحبني، كان شخصاً طويلاً قوياً ، كانت قدماي بالكاد تلامسان الأرض وهو يجرّني خارجاً، حاولت الإفلات حاولت ضربه برأسي و كوعي، لكن عبثاً، فقد كانت يدي الحرّة مثبتة من قبل شخص آخر، لمحت فيما يلمح الطائر ، مسدساً لامعاً وكأنه مغطى بالكروم اللماع، على خصر العملاق، الذي يلبس اللباس الجامعي، وقميصاً فضفاضاً أسدله فوق حزامه!!
كانت رحلةً الطيران طويلة من نهاية القاعة حتى الباب الأمامي، كنت أفرفر بين أيديهم، لكن كمن معلق في قرني ثور هائج، لا يعرف أين سينتهي به الأمر، لكن كان لدي الوقت الكافي للتفكير وقبيل إخراجي من الباب كنت قد كان المرء الذي استوعب كل شيء، فأنا عالق في وضع خطير مع شخص ليس عادياً، في تلك اللحظة وعندما تدرك هذا، تنهار دفاعاتك الجسمانية، ترتخي مفاصلك، يسود السكون كل شيء، وتتدخل غريزتك لتتبدل الاستراتيجية الدفاعية.
ولحظة أخرجوني من القاعة ، أمسكني الطويل من عنقي بيده اليسرى، ودفعني ليضرب ظهري بجدار الممر ، سمعت فقرات ظهري وهي تتباعد عن بعضها وهو يرفعني للأعلى، كوّر قبضته اليمنى وأعادها للخلف وكأنه يريد لكمي في وجهي ، كانت قبضته بحجم رأسي ربما، وكانت ملامحه مخيفة لا أعرف حتى اليوم هل هو هكذا، أم أنه تدرّب كثيراً ليتحول وجهه لوجه قاتل، خطر لي التشهّد، فلو ضربني بالتأكيد سيجد الطبيب الشرعي عظام أنفي عالقة في عظام مؤخرة الجمجمة، في تلك اللحظة، اقترب أحد الأساتذة المعيدين وهو المهندس أيمن عبد النور، الذي أصبح لاحقاً معارضاً و صاحب موقع كلنا شركاء، اقترب من هذا المرافق، وقال له : بالتأكيد لا يعرفه، وأمسك بيده المرفوعة!
سمعت صوتاً ناعماً اعتقد أنه صوتي يتساءل: من هذا؟؟
فأجابني أيمن ، هذا الأستاذ رامي مخلوف !
ثم سمعت صوتي الناعم يقول بخشوع: أنا فعلاً لا أعرفه.
ارتخت القبضة الممسكة بعنقي، وأمسكني أيمن و معيد آخر اسمه يوسف، وقاداني عائدا إلى داخل القاعة، وأجلساني في الطاولة الأولى في الوسط، أحضرا لي أغراضي، و بدأا بتهدئة روعي!
انتهى الامتحان ولن أتحدث عن كيفية الهروب من الكلية من شباك أحد مدرجات الدور الأرضي ، مرورا بكلية العلوم والحقوق ، بعد توسط بعض الطيبين عند رامي كي لا يأمر باعتقالي واقتيادي الى جهة مجهولة.
ربما لم أفكّر في تلك اللحظة، وربما بعدها بشهور عن سبب اختيار الأستاذ رامي تلك الطاولة تحديداً، حتى دار حديث بيني وبين أحد الزملاء المدعومين المقربين منه، عن تلك الواقعة، حين سألني: ألا تعرف لماذا اختار رامي تلك الطاولة، فقلت له: لا لم أفكّر ولا يهمني ذلك!!
فقال: هو دوما يجلس في القاعة بجوار الباب المقفل، كي يعطوه ورقة عليها كل إجابات الأسئلة من تحت الباب، وهذه الإجابات يكتبها له دكاترة ومعيدون في الكلية!!!
طبعاً تخرّج المهندس رامي و أصبح رجل أعمال ناجح، و حالياً يعمل مهدي منتظر.