تعليقاً على ما جرى في باريس قبل أيام، فإن المنطق يقول إن على الأوروبيين والمجتمعات الغربية إعلان العداء للجماعات الإسلامية المتطرفة والمتشددة التي تفهم الإسلام فهماً مغلوطاً، وليس لعموم متوسطات المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
عليها أن تفعل ذلك لسبب بسيط، وهو أن سهام الموت التي أرسلها المتطرفان المسلمان إلى القتلى المدنيين الـ12 لم تكن لتفرق بين المسلم والمسيحي واليهودي واللاديني. مات في مجزرة «شارلي إيبدو» رسام الكاريكاتور برنار فيلاك المسيحي، ومات المدقق اللغوي مصطفى أوراد المسلم. مات رئيس التحرير ستيفان شاربونييه المسيحي، ومات كذلك الشرطي المسلم أحمد المرابط. مات الجميع ليس لدياناتهم ذاتها، وإنما بسبب فكرة مشوهة في رأس القاتل موجهة ضد ثقافة مكتملة، ترافقت مع نشاط لا إنساني ولا أخلاقي في رؤوس بعض القتلى.
هكذا يقول المنطق، فمن يُقابل بالعداء والملاحقة الأخلاقية والجنائية هو الفاعل فقط، لأنه لو حصلت حادثة شبيهة في إحدى الدول الإسلامية وقتل عدد من المدنيين مختلطي الأديان على يد أفراد من جماعة مسيحية متطرفة، فستتوجه سهام النقد إلى الجماعات المسيحية المتطرفة ولن يتم التعرض أبداً بسوء إلى المجموع المسيحي المتحضر والمتمدن الذي يقود العالم على صعد كثيرة.
لكن ما يحدث في أوروبا اليوم غير منطقي وغير واقعي، فالغربيون عموماً والأوروبيون خصوصاً ينتظرون مثل هذا النوع من الأحداث التي تحمل فكرة جزئية لينفجروا جميعاً في وجه الفكرة الكلية. الثقافة الأوروبية الكامنة الرافضة لكل ما هو إسلامي وشرقي تتنظر المبرر، أي مبرر، لتعبر عن رفضها الصارخ والشديد الذي ما كانت لتستطيع التعبير عنه في الأوقات الطيبة والهادئة بسبب خضوع «الثقافي والتراثي» الأوروبي لمسطرة القانون المدني الذي لا يفرق بين الناس بحسب جذورهم وانتماءاتهم الدينية والعرقية والثقافية.
صحيح نحن نحتاج إلى القضاء على الأفكار المشوهة في عقول بعض الجماعات الإسلامية، أو على الأقل محاصرتها وعزلها وتجريمها أينما كانت، مثلما يفعل الغرب الليبرالي مع الأفكار المسيحية المتطرفة والمتشددة. لكننا في المقابل نحتاج أكثر إلى أن نساعد في علاج الثقافة الغربية من مرض «الإسلاموفوبيا» الذي يجعل من المصاب به هادئاً مسالماً متوجساً حذراً في يومياته العادية، لكنه لا يلبث أن ينفجر في وجوه المسلمين على عمومهم كلما سقط جدار هنا أو هناك.
الثورة التي نراها اليوم في الإعلام الغربي وبعض الشوارع الغربية ليست بسبب مجزرة «شارلي إيبدو» نفسها، وإنما بسبب عجز الأوروبيين طوال القرون الماضية عن احتواء الإسلام كدين سماوي ثالث، وعجز المسلمين عن حماية دينهم من أعمال الآخرين القذرة الموجهة إليه.
ويظل السؤالان الملحان يظهران بين الحين والآخر: كيف يمكن جعل الغربي يحتوي الدين الإسلامي ويتعايش معه؟ وكيف يستطيع المسلمون حماية رموزهم وشعائرهم الدينية؟
إجابة السؤال الثاني ستقودنا إلى إجابة السؤال الأول، وتتمثل في إدخال قانون يجرم التعرض للأديان السماوية في قوانين الدول الغربية، بحيث يسير جنباً إلى جنب مع القانون الذي يعاقب معاداة السامية وإنكار المحرقة في عدد من البلدان الأوروبية، ومن بينها فرنسا.
المسلمون ومسيحيو أوروبا والغرب سيجدون في هذا القانون خلاصاً من «الإسلاموفوبيا» المتحيزة وغير العادلة والعمليات الإرهابية القذرة الموجهة إلى الفكرة والثقافة.
المسلم الإرهابي مشوه الفكر والعقيدة لن يعاقب المجتمع الغربي بسبب مجموعة من المطلوبين لقانون دولتهم، والمجتمع الأوروبي والغربي لن يشعر بالخوف ومن ثم الكراهية لأنه يعرف أنه بعيد من سهام المشوهين المسلمين كونه لم يرتكب جريمة مجتمعية متمثلة في احتضان المتعرضين للإسلام ورموزه تحت غطاء حرية التفكير ودوران الفكرة في العقول من غير حواجز.
قانون تجريم المس بالأديان ليس من مصلحة المسلمين فقط، بل يتعدى ذلك ليشمل بنعيمه العالم كله بما فيه المجتمعات الأوروبية والغربية. لكن قد يسأل سائل، لماذا لا يكون هناك قانون في أدبيات الدول المسلمة يجرم التعرض للرموز المسيحية؟ ولماذا لا يوجد في الكثير من القوانين الغربية ما يجرم التعرض للمسيحية في ديارها؟
إجابة السؤال الثاني ستقودنا أيضاً إلى إجابة السؤال الأول، فالغرب غير معني بتجريم المتعرضين للمسيحية لأنه هو العالم الغالب، والعالم الغالب لا يعنيه تعرض العالم المغلوب لرموزه ومقدساته، فنظره دائماً مصوب نحو الفراغ في الأمام. ومثلما هو يتجاهل المتعرضين له، فهو مطلوب منه في شكل دائم تعريف مرجعية المغلوب الذي يتماس مع النخبة الغالبة، وهذا ما يفسر لنا تداول اسم المسلمين في العمليات الإرهابية العالمية، بينما لا تذكر مرجعية المسيحي الدينية في حال قيامه بعمل إرهابي مثل ما حصل مع النروجي آندرس بريفيك أو الأميركي تيموثي ماكفي.
وعليه فإن الأمة الإسلامية المغلوبة تستطيع إقناع الغرب الغالب بتبني قوانين تجريم المس بالأديان إذا أخذت المبادرة وجرمت في قوانينها أولاً التعرض للأديان السماوية كافة، بما فيها الدين المسيحي الذي يعد المرتكز المقدس لغالبية الدول الغربية.