إلى جانب الفن والأدب والموسيقى والثورة، تُعرف كوبا بالجزيرة التي تنتج أفضل أنواع التبغ.
وروّج زعيم الثورة الكوبية والرئيس الراحل فيدل كاسترو الذي حكم بلاده منذ عام 1959 وحتى 2006، للتبغ الكوبي وظهر في عديد الصور وهو يدخن “التبغ القومي”، وما زالت مصانع كوبا اليوم تستخدم تلك الصور في الدعاية لمنتجها.
تكاد لا تخلو مدينة في هذه الجزيرة (كوبا) كما يروق لأهلها تسميتها، من مصنع تبغ أو “تاباكو” كما يسمونه بالإسبانية، وإن اختلفت جودة المنتج من مصنع لآخر، أما العمل في مصانع التبغ فهو أمر شائع لكثرتها وانتشارها، والأمر النادر أن يكون من ضمن الوظائف في المصنع مهنة “القارئ”، مهمته قراءة الأخبار والكتب والروايات لعمال وموظفي المصنع.
اختبارات وقبول
كانت ماريا كريستينا محظوظة لقبولها في هذه الوظيفة قبل 24 عاما، في مصنع “إلباكيريتو” في بلدة ريميذيو بكوبا، وكانت قد مرت بعدد من الاختبارات التي تقيس مدى ثقافتها وحسن إلقائها وقراءتها وسلامة نطقها، قبل أن تختارها اللجنة من بين عدد كبير من المتقدمين.
على ماريا أن توجز الأخبار المهمة يوميا لقراءتها في نصف الساعة الأولى من الدوام، بعد ذلك تقرأ رواية تختارها بنفسها أو تطلب من العمال ترشيح بعض الأعمال لقراءتها، وعليها أن تعطي ملخصا لما قرأته في اليوم السابق قبل متابعة القراءة.
تقرأ ماريا الكتاب بشكل متقطع خلال اليوم، كي لا يفقد العمال تركيزهم ولا يصيبهم الملل.
في تلك الأثناء، عليها أن تقرأ المزيد من الأعمال لتختار المناسب من بينها، ولهذا تتردد كثيرا على المكتبة لاختيار الكتب وإدراجها في خطة القراءة. وتُنهي ماريا قراءة كتاب مع العمال كل شهر أو أقل.
وعليها أيضا أن تزور المؤسسات الثقافية والتعليمية في بلدتها وتنظم فعاليات ثقافية لعمال المصنع، من ضمنها -مثلا- دعوة بعض الشعراء لقراءة قصائدهم الخاصة.
أما عما يفضله العمال فتقول “يطلبون مني في أغلب الأحيان أن أقرأ لهم روايات عاطفية بالذات، وهنا تحدث الكثير من المواقف الطريفة وأحيانا المحرجة”.
تتابع “عليّ أن أتقمص صوت الشخصيات، وخلال قيامي بذلك أتماسك من الضحك وأنا أسمع ضحكاتهم الساخرة، وأحيانا علي قراءة حوار عاطفي، فينقسم شعور العمال ما بين خجل أو حماس، وعندها تعلو ضحكاتهم وتعليقاتهم الساخرة”.
ضحك وسخرية لا يؤثران في مستوى ثقافتهم. يذكر الشاعر الكوبي لويس بويتل أنه كان مرة من ضمن الشعراء المدعوين للقراءة في المصنع، فقاطعه المدير مشككا في معلومة قالها، فرد عليه العمال وأكدوا صحة المعلومة التي طرحها الشاعر، بل اقترحوا على المدير كتابا للقراءة والمراجعة.
تعلّق ماريا على ذلك بقولها “في الحقيقة، وفي كثير من الأحيان، يكون العمال أكثر ثقافة من المديرين”.
٫ |
تاريخ طويل
بدأت هذه المهنة عام 1865، من خلال قراءة الأخبار على مساجين سجن هافانا، ثم اقترح الناشط السياسي والمثقف نيكولاس أسكاراتي، أن ينتقل طقس القراءة لعمال مصانع التبغ، لرفع مستوى ثقافتهم وإضفاء أجواء حيوية على العمل.
ولهذا عُرف عن عمال مصانع التبغ تحديدا، سعة اطلاعهم وثقافتهم التي جعلتهم من أوائل المتمردين على ظروف العمل المجحفة.
انقسم المجتمع حينها ما بين مشجع على ذلك، كزوار المصنع الذين كانوا يضيفون إلى تجربة التدخين تجربة أخرى تستند على طقوس لافتة، كدق الجرس إيذانا ببدء القراءة، وصمت العمال وهم يستمعون للقارئ الذي يغير نبرة صوته حسب النصوص.
بينما انتقدت الصحف المحافظة في ذلك الوقت تلك المهنة، وأشارت إلى أنها تتمادى في حرية التعبير، وقد يصل ذلك للمطالبة بالاستقلال، إذ كانت كوبا محتلة من قبل الإسبان.
لم يؤثر التطور التقني وظهور المذياع على مهنة القارئ، بل استفاد من اختراع الميكروفون لإيصال صوته لجميع موظفي المصنع.
أما أجره فقد كان يدفعه العمال حتى انتصار الثورة الكوبية عام 1959 بقيادة فيدل كاسترو.
أولت الثورة اهتماما خاصا بالتعليم وقضت على الأمية، واعتبرت مهنة القراءة في المصانع أساسية لا يمكن لمصنع أن يخلو منها، لذا صار القارئ يقبض راتبه من الدولة لا من العمال.
كما أنشأت حكومة الثورة المكتبات العامة في كل أنحاء البلاد، صحيح أنها حظرت الكثير من العناوين وفرضت رقابة شديدة على سوق النشر، لكن جهودها في رفع المستوى التعليمي والثقافي للكوبيين آتى ثماره.
يبدو منطقيا إذا، أن تكون أسماء أفخر أنواع التبغ الكوبي أسماء لأعمال أدبية عالمية، مثل علامة “روميو وجولييت” التجارية المستوحاة من رائعة شكسبير، وعلامة “دي مونت كريستو” المستوحاة من رواية ألكسندر دوما “إلكونت دي مونت كريستو”.
وكان لتلك المهنة أن استحقت تصنيفها في اليونسكو ضمن التراث الثقافي غير المادي للبشرية.
المصدر : الجزيرة