كنت في عملي عندما بدأت الأخبار العاجلة بالهطول معلنة عن بداية محاولة انقلاب في تركيا، وكانت يدي ترتجف وأنا أعلن الخبر وأتخيل معنى أن يكون جيش في الشوارع أو أن يحكم العسكر.
أتخيل معنى أن نرى مجددا أحكاما بلا محاكم، واعتقالات بلا مذكرات، وأرواح تزهق ظلما، ودين يهان، وبلد تدمر وتسرق.
وبنفس هطول الأخبار العاجلة، بدأت تهطل من جميع أنحاء الوطن العربي رسائل الأصدقاء، تحذرنا كسوريين من النزول إلى الشوارع، أو الخوض في الكلام خوفا علينا من أن نكون الضحية في ما لو نجح الانقلاب.
رسائل كثيرة تدعونا أن نلتزم المنازل، والدعاء، وانتظار الفرج، وما سيحصل، ولم تغفل أن تدعم كلماتها بالأمثال كـ “يا غريب كون أديب”، و”يلي بياخد أمي بقول له يا عمي”، و”ألف كلمة جبان و لا الله يرحمه”، و تذكرنا بما نال السوريين في مصر من أذى بعد نجاح الانقلاب، وتحذرنا من مصيرهم.
وكنت أرد على رسائلهم بالصمت، في الوقت الذي أطلب من ابني وهو يستعد للخروج مع الأتراك إلى الشوارع أن يصلي ركعتين، وأن يجدد نيته وعزمه، وأن يحتسب خروجه عند الله.
لم يخيب الشباب السوري الظن، و لم تحتمل نخوتهم أن يجلسوا في البيوت حماية لأنفسهم، فيما يتعرض من قاموا بحمايتهم للخطر، فلم تعد القلوب تحتمل خسارة تركيا، ولم يعد لدينا ما نخسره سواها.
ما عدنا قادرين على احتمال أي طرف يريد أن يقمع شعبه ويحكمه بالبندقية، فما بالك بشعب وحكومة لم تترك بابا من أبواب المواساة والوقوف بجانبنا في محنتنا إلا ودخلت منه.
ولعلنا كنا أمام خيار وحيد فيما لو نجح الانقلاب، وهو رحلة هجرة جديدة، قد تكون أسهل ما تعودنا عليه نحن السوريين و تأقلمنا معه، ومع تأسيس حياة جديدة في مكان جديد، و لكنها كانت العزيزة تركيا هذه المرة.
لم يقف الشباب السوري على الحياد، وقد فهم و عرف أن الدعاء وحده ليس بالحل، و ليس ما يسترضى به الله، وأن الخروج.. والمواجهة.. والتضحية.. والمخاطرة.. هي العمل الحقيقي، وأن الحماية لن تمنع القدر.
لم يقف أغلب شبابنا على الحياد، و هم يرون الدولة الوحيدة التي فتحت لنا أبوابها، وعاملتنا بكرامة، وأعطتنا حقوق مواطنيها في العيش الكريم والحر تتعرض للأذى.
ولم يقفوا على الحياد، وهم يرون أخر وأحب معاقل الدين إلى قلوبنا تحاك لها المكائد.
ولم يتركوا من لم يترك فرصة إلا و دافع فيها عن حقوقنا، وارتدى علم ثورتنا في واشنطن حبا ودون أن يكون له مصالح معنا، بل نحن أصحاب الحاجة لقلبه وبلده، ومن خاطر بمستقبله السياسي لأجلنا وهو يقف في وجه المعارضة التي تحذر الأتراك من وجودنا.
وكنا فخورين بأن نكون مع شعب هب كالأسد، يحمل علم بلاده فقط، دون صور، دون أعلام حزبية، و بشعارات التكبير والبسملة، يعلمنا فن الفداء، وفن التضحية، وفن عدم تضييع الوقت، والتحرك السريع، واستيعاب الصدمة بلمح البصر.
فخورين باننا أمة واحدة ، قلب واحد، يد واحدة، وحدتها الهموم و الأهداف و التضحيات.
ووجدتني أقول لهم كلمة أرد بها على كل رسائل التحذير:
” قدمت الشهيد الأول دفاعا عن سوريا و لن أبخل بالثاني دفاعا عن تركيا
ابني بين صفوف الأتراك و السوريين في الميادين بكل فخر..
نحن ندافع عن الأمة كلها معهم .. لانخاف.. ولا نبخل بالأرواح..”.
ترك برس