كم من الصعب أن يفتقر الطفل إلى حنان الأم وإلى حضن يرمي نفسه إليه بعد لحظات البؤس والحرمان. حضن الأم يكون ملاذاً يؤوي إليه الصغار في حالات ضعفهم وعوزهم وحزنهم وألمهم وإن كان طفيفاً من أصعب أن يعيش الإنسان بلا سند، بلا أب أو أم..
كم أرهقت صواريخ الحقد والظلم أطفالاً في سن الطفولة البريئة، وكم آلمتهم قذائف اللهب التي أحرقت أرواحهم وقلوبهم قبل أن تحرق ذويهم.
بعيون لامعة وبراقة وابتسامات خجولة، يروي كل من “قتيبة وحذيفة” من قرى ريف ادلب الغربي قصة الألم وفقدان الأهل والسند فيبدأ حذيفة الحديث عن ذكريات الطفولة وهو الآن لم يتجاوز الثانية من عمره هرماً بجسد طفل “كم كنا سعداء في بيتنا مع أبي وأمي وأختي سوسن” وأنهى كلماته بدموع الطفل البريئة.
“كنت أمضي الكثير من الوقت مع أختي سوسن نلعب تحت شجرة الجوز الضخمة بجانب منزلنا الريفي، فقد صنع والدي –رحمه الله- أرجوحة لها على أغصان تلك الشجرة”
يمسح الطفل دموعه براحة كفه الصغير ويقول “أعشق التراب واللعب بالتراب بعد إضافة الماء عليه فذلك يذكرني بوالدتي التي لطالما كانت توبخني على اللعب بالوحل” وما في ذلك يا أمي فكلّنا خلقنا من تراب.
راح قتيبة ذو الخمسة عشر عاماً يطبطب على كتف أخيه الأصغر كرجل شهدت عيونه أعظم نوائب الدهر “الحمد لله على كل حال يا أخي فحالنا أفضل من حال الكثير من الأطفال الذين فقدوا أهلهم” ويتجه الرجل الطفل بالحديث نحوي مخاطباً “كان أبي موظفاً في دائرة البريد والحال جيد ومع بداية الأحداث وقصف النظام للقرية راح والدي يقسمنا خلال الليل وأثناء نومنا إلى مجموعتين كي يضمن ألا نصاب جميعاً بالأذى إثر القصف الذي يمكن أن يطالنا يوماً ما”
وبنظرة يكسوها الألم يستحضر ذكرياته قائلاً “كنت مع أبي ننام في غرفة في حين كانت أمي وحذيفة وسوسن في الغرفة المجاورة ولكن هذا لم يمنع القدر أن يصيبنا بسهامه فقد ضرب صاروخ لا يعرف من أرسله الرحمة بيتنا في الحادي عشر من آذار 2014 فقتل أمي وسوسن وشظية صغيرة بحجم ظفر سوس الصغير كانت كفيلة بإسقاط أبي قتيلاً دون حراك”
وبالدمع يكمل “استشهدوا جميعاً وبقيت وحذيفة ساكنين تحت أنقاض الذكريات نموت ونحيا مع كل ذكرى.” أخذنا بعدها خالي “محمود” وزوجته “عمّتي” ليربيانا وشاء الله أن لا يرزقا بذرية فكنت وأخي الغاليين على قلبيهما. انتقلنا إلى مدينة ملاطيا في تركيا وسجلنا في المدرسة وتعلمنا اللغة التركية ويعمل خالي في معمل للخياطة رغم كبر سنه ليوفر لنا ما نحتاج لإتمام دراستنا محاولا تعويضنا عن أهلنا ومحال أن يعوض الأهل بغيرهم.
وفي نفس مدينة المشمش ذات الهواء الجبليّ اللطيف وبين ثنايا هضابها وأوديتها يعيش “زيد” ذو العشر سنوات مع عمّه بعد أن فقد أبيه في الرابع والعشرين من كانون الثاني 2013 إثر اقتحام الجيش السوري لقريتهم في ريف ادلب الغربي وقتله مع رفقائه بإعدام ميدانيّ يخلو من كلّ سمات الإنسانية والرحمة.
أكثر من 165 مليون طفل يتيم حول العالم وأكثر من مليون طفل سوري يتيم بسبب الحرب والقتل الممنهج الذي يتبعه نظام الأسد وكل من هؤلاء لديه حكايات وقصص تحكي الألم ومر الحياة بفقد أغلى الأحبة ومن أغلى من اب وأم.
بقلم : محمد المعري