بقلم: ميشيل كيلو
على الرغم من ثقتي التامة بما يقوله الإعلامي المميز، الزميل هادي العبد الله، واقتناعي بصحة خبره حول نهب مرتزقة النظام متحف تدمر، قبل هروبهم من إدلب، جريا على عادة لصوص الآثار، من قادتهم الذين باعوا كل ما وقع تحت أيديهم من آثار سورية، حتى ضجت منظمات الأمم المتحدة ووزارات خارجية بعض الدول، وهددتهم بطرح القضية على الهيئات الأممية. سرق النظام آثارنا لجعلنا ننسى عراقة تاريخ لا مثيل لها، دفعت أحد فلاسفة روما إلى القول “لكل إنسان في العالم وطنان، سورية أحدهما”. ومع أنني لا أستبعد أن يقوم بعض من حرروا المدينة، بأعمال تنم عن تدني حسهم الوطني أو انعدامه، بسبب ما تلقوه من تربية وثنية معادية للدين، تحصر الخير فيهم والشر في غيرهم، وتضفي على صراعهم مع الآخر بعداً تدميرياً شاملاً، بذريعة أن الخير لا يجوز أن يتعايش مع الشر، وأن من يخالفهم في الرأي والمعتقد لا يستحق أن يكون له أي تاريخ، لأن تاريخه شر، فما الضرر، إذن، في القضاء على معالم ماضيه: إن كانت تشهد على عظمة إسهامه في الحضارة البشرية التي يعتبرها همج السلطة ومناصروها من حملة السلاح، معادية للأديان السماوية، على الرغم من أنها سبقت نزولها بآلاف السنوات، وعلى الرغم من أن الإسلام حمى إنجازاتها وأوابدها، احتراماً منه لإبداع الإنسان.
ما الذي لم يفعله همج الجانبين؟ استباح وحوش السلطة الشعب، وأدمنوا على قتله، وقصفوا كل ما هو مقدس وجميل في بلاده، ودمروا ما أبدعه خلال آلاف السنين من بنيان ومدنية، وأعادوه إلى الكهوف، وافترسوه واغتصبوه، وانتهكوا كراماته، ونهبوا أمواله وقطعوا أرزاقه وأوصاله، وألقوا معظمه إلى خارج وطنه ومألوف حياته، فلم يجد من يتخلقون بأخلاق هؤلاء من مسلحي الإرهاب الدخلاء علينا، أسلوباً أفضل للمقاومة غير تقليدهم والتفوق عليهم في الهمجية، وإلا ما معنى ذبح بريطاني عجوز كان يغسل السيارات خارج أوقات وظيفته كي يساعد شعبنا، ذبحه وحوش “داعش” في طقس تأنف منه الكلاب المفترسة؟ وما معنى قطع رأس صحافي أميركي كتب تحقيقات صحافية بليغة لصالح ثورتنا، وعمل لكسب قطاعات من الشعب الأميركي لقضيتنا؟ وماذا يبرر دينياً تدمير المتحف الآشوري في الموصل؟ هل كان الصحابة والفاتحون الأوائل، كخالد بن الوليد، كفاراً وعبدة أصنام، فشرع ضباط المخابرات السابقون، الذين يقودون “داعش” اليوم، يطهرون التاريخ من كفرهم، ويدمرون حضارة هي ملك البشرية جمعاء؟
لكن، أكثر ما روعني كان تدمير تمثال إبراهيم هنانو، الرجل الذي كنا نتغنى، ونحن أطفال، بشخصيته الفذة وشجاعته الأسطورية، ولم يكن كافراً أو زنديقا أو خائناً، بل كان بطلاً وطنياً عز نظيره، وأحد مؤسسي وطننا ودولتنا، ممن طردوا الأجنبي منها، وأرسوا استقلالها على وحدة شعبها وحريته. قال من ارتكبوا الجريمة النكراء إنهم ظنوه تمثالاً لحافظ الأسد. عذر أقبح من ذنب. ألم يعرف “الثوار” شكل حافظ الأسد، وهم يعتدون على شعورنا الوطني وذاكرتنا التاريخية وكرامتنا، باعتدائهم على رمز كبير، من الضروري، وطنياً وثورياً محاسبتهم على فعلتهم الجرمية ضده، لأن دلالاتها أشد خطراً بكثير من أي فعل قد يطالهم.
إلى أين يأخذ هؤلاء الهمج شعبنا؟ هل نسمح لهم بتدمير رموزه ووعيه الوطني، بعد أن دمروا ثورته؟ وهل نمكنهم من تحويل بلادنا إلى مسلخ متنقل، تغطي دماؤنا ترابه، جعله سلاحه وسلاحهم صحراء بلقع، ليس فيها غير ركام عمراننا، وبقايا جثثنا؟
العربي الجديد