عندما يفجع الناس بجائحة جديدة لا يعلمون منتهاها، فإنّها تميل إلى إضعاف قدرة كثيرين على التفكير العقلاني، وتدفعهم للعودة إلى طرائق الاستجابة الحزينة للعصور الوسطى في مواجهة الأوبئة: خليطٌ من التديّن المُفاجئ والتهيؤات الغريبة والنبوءات المتشائمة، وكثيرٌ من الصّلوات واللعنات، واليأس أيضاً. لكنّ الحقيقة أن هذا القاتل الذي يقف على أبواب المدن ويجتاحُ العالم اليوم أقل فتكاً بالبشر، بما لا يقاس بأوبئة تفشت في حقب تاريخيّة سابقة، وقضت على الملايين، دون أن يدرك أسلافنا ماهيّة العدوّ الذي يقتلهم، أو أن يمتلكوا ولو حدوداً دنيا من المعرفة بكيفيّة مواجهته، أو تجنب نقله للأصحاء، أو حتى تخفيف آلام التعساء الذين سقطوا في براثنه.
قبل كورونا، كانت هناك أوبئة كثيرة، أشرسها وباء الطاعون الأسود الذي نشر غلافاً كئيباً من الموت على مناطق شاسعة في أوروبا والشرق الأوسط، ووصل ذروته في السنوات ما بين 1347 و1351، آخذاً بطريقه ما بين 75 و200 مليون من البشر، وتاركاً مساحات شاسعة في الهند ووسط آسيا وأرمينيا وسوريا والعراق وفلسطين ومصر وأوروبا وشمال أفريقيا لغاية أوغندا مغطاة بالجثث والخراب.
وبحسب الوثائق التاريخيّة التي نجت من تلك الفترة، فإن الوباء كان قد انتقل على الأرجح من الصين عبر طريق الحرير إلى ميناء كافا في شبه جزيرة القرم التي كانت خاضعة وقتها لحكم جمهوريّة جنوى الإيطاليّة. ويبدو أن الجنود المغول الذين كانوا يحاصرون الميناء وحملوا الوباء معهم ألقوا بجثث المتوفين من فوق الأسوار، مما تسبب في تفشيه بين الجنويين. وحمل البحارة الذين فرّوا من الموت والحصار الوباء معهم إلى القسطنطينيّة أولاً، ثمّ صقليّة، حتى إذا ما وصلوا بلادهم مُنعوا النزول إليها، بعدما كانت سبقتهم الأنباء عن بضاعة الموت القادم من الشرق التي يحملونها معهم. إلا أن أحدهم تسلل من السفينة تحت جنح الظلام، فكانت الكارثة التي قضت على معظم السكان المحليين. انتقل المرض بعدها من جنوى إلى البندقيّة وفلورنسا وبقيّة إيطاليا، قبل أن يصل إلى فرنسا وإسبانيا والبرتغال وألمانيا ومعظم البرّ الأوروبي، إلى إنجلترا وآيرلندا غرباً، وروسيا وبلاد البلطيق شرقاً، والبلاد الإسكندنافيّة شمالاً، ليقضي خلال سنوات معدودة على ما يقرب من نصف سكان القارة في ذلك الوقت، بنحو لم تتعافَ معه قط. وفي الشرق الأوسط، وصل الوباء من القسطنطينيّة عبر البحر إلى الإسكندريّة، ومنها عبر غزة إلى المشرق حتى بغداد، وجنوباً نحو مكّة، وغرباً إلى المغرب، وشمالاً نحو أنطاكيّة التي حاول سكانها الفرار من الوباء إلى الأناضول، ليقضي معظمهم به في دروب الرّحيل.
وقد سجّل المؤرخ العربي ابن خلدون الذي فقد والديه وعدداً من أساتذته بالموت الأسود الكارثة التي ألمت بالعالم في زمنه: «نزل بالعمران شرقاً وغرباً في منتصف هذه المائة الثامنة، من الطاعون الجارف، الذي تحيّف الأمم، وذهب بأهل الجيل، وطوى كثيراً من محاسن العمران ومحاها، جاء للدول على حين هرمها، وبلوغ الغاية من مداها، فقلص من ظلالها، وقل من حدها، وأوهن من سلطانها، وتوادعت إلى التلاشي والاضمحلال أحوالها، وانتفض عمران الأرض انتفاض البشر، فخربت الأمصار والمصانع، ودرست السبل والمعالم، وخلت الديار والمنازل، وضعفت الدول والقبائل، وتبدل الساكن، وكأني بالمشرق الذي نزل به، مثل ما نزل بالمغرب، ولكن على نسبته ومقدار عمرانه، وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض، فبادر بالإجابة، والله وارث الأرض ومن عليها. وإذا تبدلت الأحوال جملة، فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم بأسره وكأنه خلق جديد، ونشأة مستأنفة وعالم محدث».
وانفرد صاحب كتاب «نفاضة الجراب» بالحديث عن وباء الطاعون الذي أصاب بلاد المغرب، فكتب يقول: «ووجدنا الطاعون في بيوتهم قد نزل، واحتجز منهم الكثير إلى القبور، واعتزل وبقر وبزل، واحتجز فلا تُبصر إلا ميتاً يخرج، وكميتاً إلى جنازة يسرج، وصراخاً يرفع وعويلاً بحيث لا ينفع، فعفنا الهجوم، وألفنا الوجوم، وتراوغنا عن العمران، وسألنا الله السّلامة من معرّة ذلك بالقرآن».
ورغم وجود روايات موثقة عن بشر تحدوا الخطر لانتشال الآخرين من فم الموت، فإن مقدّمة نصّ «الديكاميرون» الذي سجل فيه الإيطالي بوكاسيسيو شهادته على المرحلة (1358) يقول إن «الأخ كان يفرّ من أخيه، والقرينة من قرينها، بل وشهدنا أموراً لم تكن لتخطر على البال، إذ كان بعض الآباء أو الأمهات يفرّون بأنفسهم، ويتركون أبناءهم وحيدين ليلاقوا مصيرهم المحتوم».
وهناك شهادة من كاتب آخر مجهول، يقول فيها إن «قنوات البندقيّة المائيّة الجميلة امتلأت بالجثث التي كانت تُلقى من الشرفات»، فيما أعلن كليمنت السادس البابا المنفي إلى أفينيون بفرنسا نهر الرّون بأكمله مقبرة مفتوحة لضحايا الوباء.
وكان الفلكي سيمون دي كوفينو أوّل من أطلق على الوباء لقب «الموت الأسود»، في قصيدة له عام 1350، ليصبح بمثابة علم على كل طاعون، إذ أطلق كتاب تاريخ دنماركي نشر عام 1631 اللقب ذاته على تفشي الوباء في القرن السابع عشر، فيما وصل إلى اللغة الإنجليزيّة بداية من عام 1755.
وفي إنجلترا، مسح الطاعون الأسود بلدات الجنوب الغربي بأكملها عن الوجود، زاحفاً نحو لندن التي وصلها، وفق الشهادات، في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 1348. فلم يُطلّ العام الجديد إلا وقد روّع المدينة بالكامل، واضطرت السلطات إلى تخصيص حفر ضخمة على أطرافها لتكويم جثث الضحايا فيها. ووفق وثائق البلديّة، فإن لندن كانت تفقد يومياً 200 من سكانها على الأقل، سوى غير المسجلين من المشردين والمهمشين. وقد كتب راهب أغسطيني، يدعى هنري كينغتون، يصف تلك الفترة: «هناك موت يعمّ العالم بأجمعه. لقد تحولت معظم البلدات والنَجوع إلى أماكن مهجورة، بعد أن قضى سكانها عن بكرة أبيهم»، ويذكر كيف أن «الناس وكأنهم جنّوا، ولم تجد السلطات بداً من إجبارهم على التجمع في الكنائس، لعل رحمة الربّ تتنزل عليهم».
ووصف المؤرخ الفلمنكي جان دو أوتيرميوس أجواء مشابهة في مدينة ليج (بلجيكا الحاليّة)، مضيفاً أن اليأس ألمّ بالناس «حتى أن النسوة أفلتن لأنفسهن العنان بالعبث والفجور، ولم يعدن يبالين بشيء». وتظهر سجلات باريس أن العاصمة الفرنسيّة كانت تحصي ما لا يقل عن 800 جثة يومياً خلال فترة ذروة الوباء، فقضى نصف سكانها على الأقل، فيما يصوّر نصّ كتبه الشاعر الويلزي ليوان غيثين عام 1349 مأزق روحه في تلك الفترة، فيقول: «نرى الموت يتسرّب بيننا كما دخان أسود، طاعونٌ يستأصل الشباب، شبحٌ بلا جذور لا يرحم طلّة بهيّة، ولا يعفي من غضبه أحد».
وفي يوليو (تموز) 1348، وصل الوباء آيرلندا، بعد ستة أشهر من تفشيه بجنوى، فضرب موانئها قبل أن يعمَ الجزيرة بأكملها. وهناك يوميّات شديدة الأهميّة تسجّل وقائع تلك الأزمنة المظلمة، تركها راهب فرانشيسكي من بلدة كيلكيني، يدعى جون كلاين، تظهر أن العالم برمتّه كان يعيش الكارثة ذاتها، إذ يقول: «لم يتبقَ بيت في آيرلندا اكتفى الموت الأسود بخطف روح شخص واحد من أهله، إذ غالباً ما كان يأخذ في طريقه العائلة بأجمعها: الأبّ والأم والأبناء»، وسجّل أنّ دبلن فقدت 14 ألفاً من سكانها خلال خمسة أشهر، ودوّن أسماء 25 من رفاقه رهبان دروغيدا الذين قضوا نحبهم وهم يحاولون تقديم العون للذين يفارقون الحياة، كما أسماء 23 آخرين من دير آخر في دبلن.
ويبدو أن الرّاهب كلاين كان يعتقد أنّه يشهد نهاية العالم رأي العين، إذ يقول: «خشية أن تنقرض الكتابة بموتي، وألا أقوم بواجبي، فسأستمر بتدوين هذه اليوميّات التي بدأت بها، لربما يجدها رجل قد ينجو بالصدفة من الموت القاسي، أو يتبقى بعدي في الدنيا أحد من نسل آدم». وبالفعل، تستمر اليوميّات لبعض الوقت، قبل انقطاعها فجأة وبلا مقدمات، بعد بداية عام 1349. ليخط آخر سطر فيها شخص آخر، اكتفى بالقول: «يبدو أن المؤلف قد قضى نحبه».
نقلا عن الشرق الاوسط