تسلك روسيا في سورية سلوك “رجل أعمال” غِنم صفقة كبيرة، ولن يدعها تفلت من يده بأي ثمن، وسيحاول، ما وسعه الجهد، تعظيم هذه الصفقة التي تتمثل ببسط وجودٍ عسكريٍّ دائم في هذا البلد، والتمتع بحرية حركةٍ مطلقةٍ حاضراً ومستقبلا، والقيام بمناوراتٍ عسكريةٍ فعلية، وليس على سبيل المحاكاة، كما يتم في المناورات التقليدية، وذلك باستعراض أسلحته المتطورة وتجريبها، وتحقيق نتائج “فعالة”، مثل تهديم شرق حلب على رؤوس عشرات الآلاف من سكانها. وكانت حلب، منذ العام 2012، قد شهدت تدميراً واسعاً على يد النظام، باستخدام أسلحةٍ روسيةٍ، لا قيد على استخدامها داخل الحدود، ومنها طائرات ميغ وسوخوي، وصواريخ غراد وسام. هذا قبل أن يتدخّل الروس بصورة مباشرة في خريف العام 2015، ويستكملوا تهديم الحاضرة التاريخية التي زيّن لهم من زيّن أنها، في مكونها الديمغرافي وثقافة أهلها ومعتقداتهم، تشبه غروزني الشيشانية التي جرى تهديم 98% منها، وعدد سكانها نحو 300 ألف نسمة في نهاية القرن الماضي. والآن، يقول مسؤولون روس إن غروزني حديثة قد أنشأوها. وبمعنى أنه لا مشكلة في هدم مدينةٍ كاملةٍ تخص شعباً آخر، وبكل إرثها الإنساني والروحي، ما دام في الإمكان بناء مدينةٍ حديثة على أنقاضها، تتبع السلطة فيها لموسكو. وهذا هو المصير الذي يبّيتونه لحلب الشهباء التي تماثل في عظمتها القاهرة وبغداد والقيروان وفاس.
نقلت الأربعاء الماضي (19 أكتوبر/تشرين الأول الجاري) وكالة تاس الروسية عن أناتولي بونتشوك، وهو نائب مدير دائرة التعاون العسكري والتقني، قوله إن العملية الجارية في سورية أثبتت أن التجهيزات القتالية الروسية ذات خصائص تكتيكية وتقنية عالية في ميدان القتال، وإن نجاحاتنا في مكافحة الإرهاب (في سورية) زادت اهتمام الزبائن الأجانب بالأسلحة روسية الصنع، بما فيها العتاد البحري. ويعلم الجميع أن روسيا لا تكافح “داعش”، بل تكافح المدنيين بممارسة إرهاب الدولة الأجنبية عليهم. ومن الطبيعي أن تؤدي أية أسلحة تقليدية متطورة إلى الفتك بالمدنيين، وتقويض المنشآت المدنية، كالأسواق الشعبية والأحياء السكنية والمخابز والمشافي، وهي الأهداف المفضلة لـ “الأسلحة الروسية ذات التقنية العالية”. ويتطلع الروس، في هذه الغضون، إلى سحق المعارضة السورية المسلحة، وأكبر قطاع ممكن من البيئة الديمغرافية للمعارضة خلال الشهور الثلاثة المقبلة، قبل أن يصل رئيسٌ جديدٌ إلى البيت الأبيض، مستغلين ولع الرئيس أوباما في عقد الاجتماعات، وتأمل الوضع في سورية عن بُعد، والامتناع عن الإتيان بأي فعل “حتى لا تسوء الأوضاع أكثر”، علماً أن العزوف الدولي عن اتخاذ أية مبادرة على الأرض وفي الجو هو بالذات ما جعل الوضع يسوء أكثر، وبالذات منذ عامٍ مضى.
يُسهم ترويج الأسلحة الروسية في منح هيبةٍ للدولة الروسية في نزوعها القيصري، ومنافسة الصناعات العسكرية الغربية، وتكريس الاعتماد على السلاح الروسي، كما يُسهم في رفد الخزينة، في ظل انخفاض أسعار البترول، والعقوبات المفروضة أوروبياً وأميركياً، على خلفية التدخل الروسي في أوكرانيا. وقبل أيام، كان أناتالي بونتشوك قد أعلن، في تصريحاتٍ بثتها قناة روسيا اليوم، أن صادرات الأسلحة الروسية بلغت ثمانية مليارات دولار، حتى أغسطس/ آب الماضي، وكان الرئيس فلاديمير بوتين قد أعلن، في وقت سابق، أن روسيا باعت، في العام 2015، أسلحة بمبلغ 14.5 مليار دولار إلى 58 دولة، في حين يبلغ مجموع الطلبات للسنوات المقبلة حوالي 50 مليار دولار. ويفاخر الروس بأن صادراتهم من الأسلحة تمثل ما نسبته 25% من مجمل صادرات السلاح في العالم، ولا تتقدم، حتى الآن، على روسيا سوى الولايات المتحدة التي تحتل 33% من سوق السلاح العالمي.
وتقدّم موسكو تسهيلاتٍ للتزود بأسلحتها، فقبل أيام، جرى الإعلان في موسكو أن الأخيرة عرضت على الأردن اتفاقاً ملزماً بشراء أسلحة وتجهيزات تقنية بمبلغ 387 مليون دولار، وذلك لسداد قرض للقوات المسلحة الأردنية بقيمة 350 مليون دولار (مع فوائد هذا المبلغ)، وقد تم منح القرض في العام 2006 لشراء تجهيزاتٍ عسكريةٍ روسية، وجرى شراؤها بالفعل كما تقول موسكو. وقد جاء العرض الروسي الذي وافق عليه مجلس الدوما (البرلمان) رداً على طلب الأردن منذ العام 2012 إلغاء الديون الروسية عليه. وبهذه الطريقة، تضمن موسكو التزود بمزيد من أسلحتها، مع تقديم تسهيلات كبيرة.
على هذا النحو، تتم المراهنة اقتصادياً في موسكو على بيع الأسلحة، وربما بأكثر من المراهنة على صادرات الحبوب والنفط والغاز. وتشجّع موسكو، كما واشنطن، السباق بين دول العالم قاطبةً على التسلح، وذلك لضمان ازدهار صناعة الأسلحة الروسية، كما الأميركية.
ولهذا، فإن التدخل الروسي المباشر في سورية، قبل أزيد من عام، قد استهدف، في المقام الأول، الإجهاز على الحل السياسي، المتمثل بمفاوضات جنيف، والاستعاضة عن الحل التفاوضي بلقاءاتٍ يجريها وزير الخارجية، سيرغي لافروف، في عواصم أوروبية، مع اعتماد الحل العسكري على أوسع نطاق (أو بالأحرى تكريس الحل العسكري الذي اعتمده النظام وتوسيعه)، وهو ما يتوافق مع المصلحة الروسية، بصرف النظر عن رأي السوريين، وكذلك بصرف النظر عن أن المدنيين المنكوبين هم من يتم تجريب الأسلحة المتطورة على أبدانهم.
ولهذا، فإن ما يتواضع العالم والضمير البشري على تسميتها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية على يد القوات الروسية في حلب وإدلب، وغيرهما من مدن منكوبة، فإنه، في نظر أصحاب هذا “الإنجاز”، لا يعدو أن يكون فرصةً ثمينةً سانحةً، لاستعراض الأسلحة في عرضٍ حيٍّ أمام زبائن مستهدفين في الخارج.
ومنذ أيام، يجري الحديث عن تحضيرات روسية لـ “حلّ نهائي” في حلب، تتهيأ له سفن حربية في المتوسط، تحمل قاذفات مقاتلة. وبما أن أجزاء واسعة من الشهباء قد جرى تهديمها من قبل بأسلحة روسية استخدمها النظام، أو استخدمها الروس أنفسهم، فإن مهمة تحويل الأجزاء الكبرى من حلب إلى غروزني أخرى تبدو سهلة التحقيق في أنظار الخبراء العسكريين الروس. ولا يؤدي تباطؤ المجتمع الدولي في فرض عقوباتٍ على موسكو سوى لتشجيعها على ارتكاب مزيدٍ من جرائم الحرب، فيما ينشط الوزير لافروف في عقد لقاءاتٍ مع وزراء أوروبيين وسواهم، لإثارة انطباعاتٍ زائفة بالبحث عن حلول مزعومة، فيما الهدف الوحيد روسياً لهذه اللقاءات هو كسب الوقت، وصرف الأنظار عما تفعله القوات الروسية بأسلحتها المتطورة ضد ما تبقى من حلب ومن حلبيين، إضافة إلى أدلب وريف دمشق.
العربي الجديد – محمود الريماوي