يذكر عبد العزيز ديوب في سلسلة مقالات نشرها أخيراً، أنه عندما تقاعد العماد علي دوبا، رجل الأمن الشهير في عهد حافظ الأسد، والذي لا يخلو كتاب عن المعتقلات السورية من ذكر الفظاعات الكبيرة التي كان يمارسها بحق السجناء السياسيين، أنه “كان لا بد من القيام بإجراءات التسلُّم والتسليم، وهنا تبين لدى إدارة المركبات العسكرية، وجود 1300 سيارة بذمة العماد، وبصعوبة جرى استرداد 200 سيارة فقط، وما تبقى كان بحوزة من قدم إليهم العماد تلك السيارات كهدايا، وكذلك تكررت الحالة لدى تقاعد وزير الدفاع مصطفى طلاس، ولكن عدد السيارات التي قام بإهدائها بلغ فقط 800 سيارة..”!
تحتل القصص المتعلقة بالسيارة مكانة كبرى في حياة السوريين منذ الاستقلال وحتى اليوم. إذ حين يحضر الحديث عن السيارة، فإن السوري لا بد وأن يحدثك عن رئيسه الوطني الكبير شكري القوتلي، وكيف أنه كان في القصر الجمهوري سيارة واحدة قديمة، “تعطلت ذات يوم وهي بموكب الرئيس مما اضطره وضيفه الملك حسين إلى إكمال مشوارهما بسيارة رشاد برمدا الذي كان وزيراً للدفاع”. ويحدثك السوري -أيضاً- أنه في ذلك الزمن الجميل اضطرت الحكومة إلى إجراء عملية مناقلة بين مادة وأخرى في ميزانية الدولة، كي تتمكن من شراء سيارة جديدة للقصر الجمهوري، لكنها اصطدمت بنواب المجلس النيابي الاشتراكيين، الذين عارضوا فكرة الشراء وأصروا على إصلاح السيارة القديمة.
من هؤلاء الاشتراكيين ولد حزب البعث، ومنه ظهر حافظ الأسد ونجله وريث الجمهورية. ومن لحظة استيلاء حافظ الأسد على السلطة، بدأ حديث السيارة يختلف ويأخذ منحىً آخر، وصارت السيارة من أبرز وسائل شراء الذمم، والقضاء على الاقتصاد السوري. وتزخر هذه الحقبة السورية بملايين القصص المتعلقة بالسيارة، وعشرات الطرق التي سلكها النظام في استخدام السيارة لضمان استمراره، وكلها لا يجمعهما جامع، إلا السيارة، والتي تصل (القصص والطرق) إلى درجة قد لا يصدقها غير السوريين.
في سورية البعث وحافظ الأسد ووريثه، أصبحت السيارة حلماً لدى السوريين، وصارت مثل النبيذ، كلما هرمت زاد سعرها، وهذا خلافاً لما يجري في العالم. فالسيارة في هذا الزمن الرديء، حكر على النظام والعاملين على بقائه، أما من يكون من الدائرة الأخرى فعليه أن يدفع ثمناً لسيارة قديمة يعادل أضعاف سعرها، وربما تأتيه دورية أمنية بعد الشراء لسؤاله عن مصدر ثمنها، وقد تتهمه بالتعامل مع الإمبريالية والرجعية!
يتذكر السوريون دُفعة السيارات ( مازدا وميتسوبيشي) التي استوردتها الحكومة، وكيف أصبح سعرها بعد أسابيع مضاعفاً مرات عدة، ذلك لأن الدولة، يومها، احتكرت الاستيراد ولم تسمح لغيرها باستيراد السيارات. ويتذكر السوريون، حكاية أخرى حين قامت الدولة بفتح باب الاكتتاب على سيارات “بيك آب” صغيرة، وكان سعر الدولار 13 ليرة، لكنها بعد سنوات أعادت للمكتتبين أموالهم معتذرة عن الاكتتاب، دون تبيان الأسباب، وكان الدولار قد وصل سعره إلى 40 ليرة!
اعتمد النظام على السيارة في شراء ذمم مواليه وإبقائهم معه، وأصدر القوانين التي تجعلها حلماً بعيد المنال عند عامة الشعب، سهل المنال عند المقربين منه، والذين يقدمون له خدمات أمنية وغيرها من الخدمات التي تكفل استمراره في اغتصاب حكم (الدولة!) والشعب.
الضابط من مرتبة “الضباط الأمراء” أصدروا قانوناً يجيز له الحصول على موافقة إدخال سيارة باسمه ووضع لوحة سورية عليها، دون أن يدفع الضرائب القاصمة التي أنهكت بقية السوريين، وسمحت له ببيعها بعد ذلك ليجني ربحاً بملايين الليرات، يضمن سكوته الأبدي!
أعضاء مجلس الشعب وكي تبقى ذممهم رهينة لدى النظام، أصدروا لهم قانوناً يجيز للعضو منهم أن يستورد سيارة له حق التصرف بها، وذلك فور انتخابه، وحتى قبل أن يحضر جلسة القسم! وطبعاً يجب أن تكون سيارة عضو مجلس الشعب من النوع الفاخر! وهذا ما كان من أسباب رواج سيارات المرسيدس الفخمة، في مجتمع يعيش غالبية أفراده حالة من الضنك الدائم، وتبلغ نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر فيه أرقاماً قياسية.
وهنا تجدر الإشارة إلى أنه بعد رفض أبناء عائلة سنقر وكلاء مرسيدس شراكة حوت الاقتصاد السوري رامي مخلوف بن خال الرئيس، تم تقليعهم خارج سوريا، فقام رامي بالحصول على وكالة لبيع اللكزس والأودي، وحينها تحول الجميع إليهما، فاستبدل القصر الجمهوري والقيادة القطرية والوزراء والمدراء المرسيدس بالأودي واللكزس!
كيف لا؟ ورامي هو الوكيل.. لا يعقل أن نترك حوت الاقتصاد وابن خال الرئيس وحيداً!
ولأن غالبية أعضاء المجلس يتم انتقاؤهم من حثالة القوم، وديدنهم الأساسي جمع المال، و لا فرق عندهم بين اعتلاء “الحمارة أو السيارة”، فإنهم بدورهم يبيعون موافقات الاستيراد للتجار بملايين لليرات، أما من يخطئ و”يركب رأسه” ويصر على أن يشتري سيارة مرسيدس “خلنج”، ويصر على عدم بيع رخصة شرائها، فإن حصانته النيابية لا تحميه من عين ضابط أمن حسود، أو من عصابة من عصابات سرقة السيارات التي تديرها مافيا عائلة الأسد. وهنا تحضرني قصة النائب الرقاوي، الذي خرج من منزله ليجد سيارته قد سرقت، وبعد بحث طويل وجدها في “القرداحة” أمام منزل أحد أفراد عائلة الأسد، ولم يستطع استردادها، إلا بعد أن وفقه الله بالعثور على أحد “مفاتيح” عائلة الأسد، وبعد أن دفع “المعلوم” استرد سيارته، وقد “شلحوها” من المسجلة وبعض الإكسسوارات الأخرى!
وما دمنا في مجال الحديث عن السيارات المسروقة، فقد قدرت بعض المصادر الصحفية أن عدد السيارات المسروقة خلال حكم الأسد الأب، قد بلغ نحو 13000 سيارة أغلبها في حلب ودمشق، وأن السارقين إما من الأمن أو من عصابات تنتمي لأفراد من عائلة الأسد، وهذا الرقم لا يشمل السيارات المسروقة من لبنان، حين كان حماة الوطن يسرحون ويمرحون فيه. أما بعد قيام الثورة السورية، وبروز دور الشبيحة، فليس هناك من إحصائيات لكن ظاهرة سرقة السيارات باتت علامة من علامات التشبيح والتعفيش، ويصعب حصرها بأرقام دقيقة.
وبالعودة إلى موضوع منح وإهداء السيارة، فإنها، في سورية البعث والأسد، لا تقتصر على القصر الجمهوري ورجالات الأمن الكبار، إذ يمكن للوزير أو المحافظ أو لمدير عام مؤسسة كبرى، أن يقوم بتخصيص أفراد عائلته والمقربين منه بسيارة، مع ما يكفيها من محروقات، والتكفل بدفع تكاليف إصلاحها، وأذكر هنا، أن أمين أبو الشامات عندما عينوه محافظاً لمدينة دمشق قام بسحب نحو 330 سيارة من أشخاص كان سلفه غسان الحلبي قد فرزها لهم، مع قسائم محروقات شهرية، تكفي لتشفيط أبنائهم، ولرحلاتهم، ودفع فواتير إصلاحها من خزانة المحافظة مهما بلغ الثمن!
ومن إبداعات عائلة الأسد المهمة المتعلقة بالسيارة، قيامها بابتكار ورقة المهمة، فأجازت لقادة الفروع الأمنية منح عيونهم ومقربيهم كتباً ممهورة بأختامهم، تتيح لهم استخدام سيارات يجلبونها من لبنان بأسعار زهيدة، أو يسرقونها على مرأى من أعين أصحابها، وهذه الكتب تسمح لأصحابها بإدخال السيارة، والتحرك بها بحرية تامة في أرجاء الوطن السوري!
من المعروف في العالم أن رقم “الشاسيه” هو مرجعية السيارة وأساس سجلاتها، وأنه بالإمكان تبديل أو تعديل المحرك عند اهترائه أو إصابته بعطل فني، وعندها يمكن إبداله بكل سهولة ولا يحتاج إلى موافقات. لكن الأمر مختلف في سوريا البعث والأسد، ففي الوقت الذي لم يترك المسؤولون وأبناؤهم سيارة رياضية وغيرها تعتب عليهم، فإن تبديل محرك السيارة في سورية الأسد لا يمكن له أن يتم دون موافقة دائرة المرور، والتي بدورها لا تعطي الموافقة دون موافقة المخابرات، والتي لا تعطيها إلا بعد “رشرشة المعلوم”، ذلك لأنهم يخافون من تركيب محركات قوية تكشف”هرهرة” سيارات عناصر المخابرات، وتسبقها عند الحاجة!
نعترف أخيراً أنه لا يمكن لمقال واحد أن يحيط بموضوع “السيارة” في عهد عائلة الأسد، ذلك أنهم لم يتركوا وسيلة لابتزاز الشعب، وضمان سكوت مواليهم عبر السيارة، إلا واستخدموها، ووضعوا لها القوانين التي تحميها، لكن الغريب -فعلاً- أنه ما زال هناك من يعتقد أنّا كنا عايشين!
هافينغتون بوست عربي – عمار مصارع