جائحة كورونا ليست قصة خيال علمي، أو لوحة تجريدية أو حكاية موت جماعي في بلد بعيد، وضحاياها ليسوا أرقاما معلقة في الهواء. هذا الفيروس حل علينا ضيفا ثقيلا ودخل بيوتنا بلا استئذان. تسلل من الثقوب واقتحم خلوتنا، ونشر الرعب في شوارعنا وحاراتنا ومدراسنا وجامعتنا. شبح يلتف حولنا، ويكاد يقتترب من فتحات أنوفنا وصحون آذاننا ليتسلل إلى رئتينا. بدأ يخطف أحبابنا وأصدقاءنا. يطيح برفاقنا ويرمي بهم في المستشفيات التي لم تعد تتسع إلا لأنصاف الموتى. نتصل يوميا بعشرين أو ثلاثين صديقا أو قريبا للاطمئنان عنهم والتأكد من خلوهم من الوباء أو تماثلهم للشفاء. بعضهم ما زالوا في غرف العناية المركزة، لا يستطيعون الكلام، وبعضهم في غرف مغلقة معزولة في بيوتهم، لا يتعاملون مع أحد، ولا أحد يتعامل معهم إلا من وراء الأبواب الموصدة.
سأنقل لكم اليوم قصصا حقيقية عن أصدقائنا الذين قضوا وبكينا عليهم عن بعد، وما تمكنا من السير في جنازاتهم، ولا وقفنا طابورا بعد دفن الميت لنقدم التعازي لأهله وذويه. قدمنا التعازي بالهاتف، أو بوسائل التواصل الاجتماعي.
وداعا أيها الأعزاء سيف وعماد وحسن
يوم الثلاثاء الماضي، بلغ عدد ضحايا كورونا في منطقتي نيويورك ونيوجرسي المتلاصقتين 2228 وفاة من كل الجنسيات والألوان والخلفيات. حملت سيارات الجنازة خمسة وعشرين شخصا من العرب والمسلمين إلى مثواهم الأخير في مقبرة بتلر بنيوجرسي. أخبار الوفيات تصلنا كل يوم. نحن في قلب العاصفة. لا نعرف متى تزول هذه الغمة، لكننا ما زلنا ملتزمين بالحجر البيتي وشروط السلامة قدر الإمكان. لكن من بيننا من هو مضطر للخروج، خاصة العاملين في المجال الصحي والطبي وأصحاب محلات الغذاء والدواء والسوبرماركت. من هؤلاء فقدنا مجموعة زادت عن 120 على الأقل والأعداد ما زالت في تصاعد.
عن هؤلاء الضحايا نتكلم. خطفتهم منا ذراع كورونا الطويل، أوجعنا رحيلهم قبل الأوان. وبسبب الحظر والتباعد فوجئنا برحيلهم، فجاءت الأخبار ثقيلة وكأن «ما فينا لا يكفينا». سنذكر هذه الأيام العصيبة. وعندما نخرج من عين العاصفة، وتهدأ الرياح العاتية ونخرج من زوايانا لنحتفل معا بالانتصار على الفيروس اللعين، سيكون الاحتفال ناقصا بمقدار ما فقدنا من أحباب وأصدقاء وأقارب. الدكتور سيف تيتي صديق الجميع. من أعمدة الجالية العربية الفلسطينية. في كل مناسبة تجده في المقدمة. كان مسكونا بحب فلسطين كلها ومسقط رأسه غزة على وجه التحديد. لا تفوته مناسبة وطنية أو دينية أو اجتماعية، إلا كان مشاركا أو صانعا لها أو ممولا. فتح أولى صيدلايته في منطقة جورنال سكوير في منطقة جيرسي سيتي، حيث توجد أكبر جالية مصرية. كان محبوبا من جميع أبناء الجالية هناك، الذين أحبوه لدماثة خلقه وكرم طباعه. لم يكن يفرق بين مصري وفلسطيني، أو بين مسيحي ومسلم، لكنه كان منحازا للفقراء، الذين لا يتقاضى منهم أي ثمن عن دواء هم بحاجة إليه، كما حدثني الشيخ عبد الخالق، الذي صادقه لأكثر من ثلاثين سنة. زوجته كانت تعمل ممرضة في أحد المستشفيات في نيوجرسي، ولم تكن الاحتياطات الوقائية قد أخذت زخمها بعد فاصيبت بالوباء، نقلت العدوى لزوجها ودخل الاثنان المستشفى، وبعد خمسة أيام انتقل إلى رحمة ربه يوم 7 إبريل، وبقيت زوجته مدة أسبوعين من بعده وتماثلت للشفاء. كانت صدمة للجالية، خاصة أنهم لم يستطيعوا الصلاة عليه أو المشاركة في الجنازة، التي اقتصرت على سبعة أشخاص فقط. غريب أمر هذه الأقدار. كان يستعد للرحيل إلى كاليفورنيا، ليكون قريبا من ابنه من زوجته الأولى التي توفيت بالسرطان. لكن القدر كان أقوى فرحل ولا أحد حوله بعد أربعين سنة في خدمة القضايا العربية والإسلامية، خاصة قضية فلسطين.
عماد شاب من بلدة بيت حنينا القريبة من القدس عمره لا يزيد عن الثلاثين سنة. يعمل مع والده في محل سوبر ماركت في بروكلين.. في بداية الأزمة، خاصة بعد إعلان حالة الطوارئ يوم 13 مارس، هجم الناس على المحلات التجارية للتزود باحتياجاتهم الضروروية، لم تكن الاحتياطات الوقائية صارمة، خاصة بعد التصريحات المتناقضة للرئيس ترامب، الذي ظل يقلل من خطورة الأزمة، وعينه على الانتخابات المقبلة أكثر ألف مرة من أن تكون على المواطنين. كان التزاحم على المواد الغذائية والمستلزمات الورقية والصحية الأخرى شديدا. في تلك الفترة انتشر الفيروس بشكل مخيف. بدأت عوارض الإصابة بكورونا تظهر في الأسبوعين التاليين بشكل واسع، وهؤلاء وسعوا من نشر الفيروس لتصل ذروة الانتشار في منتصف الشهر الحالي إبريل. شعر عماد بارتفاع حرارته فذهب لمراجعة المستشفى وإجراء الفحص الاعتيادي. طلبوا منه أن يبقى في المستشفى، بعد أن تأكدوا من إصابته بالفيروس. بقيت حالته تقريبا مستقرة. يستخدم جهاز التنفس العادي للمزيد من الأوكسجين. أبو مراد كان يتصل به يوميا ثلاث مرات. ويتحدث معه ويزوره بعد أخذ الاحتياطات اللازمة. «بعد تسعة أيام كان هناك أمل بأنه سيخرج معافى من المستشفى»، قال والده عصام مجلي وهو يروي قصة وفاة ولده والدموع تغالبه. «توفي عماد أمامي. استبدلوا جهاز التنفس الصناعي الذي كان عليه بجهاز تنفس صناعي آخر، وما هي إلا دقائق عدة حتى رأيته يفقد حركته تماما وينزل مؤشر دقات القلب إلى خط مستقيم. كان ذلك الساعة الحادية عشرة صباح الاثنين 6 إبريل».
قصص حقيقية عن أصدقاء قضوا وبكينا عليهم ولم نتمكن من السير وراء جنازاتهم ولا وقفنا طابورا لنقدم التعازي لأهلهم وذويهم
وتابع وهو يتذكر بحسرة تلك اللحظات التي لا تصدق أن ابن الثلاثين ربيعا يرحل بهذه الطريقة وهو الخالي من أي مرض. «لا أعرف لماذا غيروا الجهاز. لكنني أؤمن بقضاء الله وقدره. لقد ربيت ابني عماد على الأخلاق السامية والدين الحنيف والاستقامة والإيمان العميق. لا أريد أن أتهم أحدا بارتكاب خطأ طبي. الله أعطى والله أخذ. تصور أن ابني الثاني رزق بعد يومين من وفاة عماد بمولود ذكر سميناه عماد، وكأن الله أراد أن يعوض عليّ بديلا لمن فقدت. ولنا عزاء أيضا في ابني الفقيد ابنته ذات السنوات الثلاث وابنه في سنته الأولى» إنها الأقدار. من كان يتخيل أن هذه الجائحة ستقبض على خناق مدينة نيويورك العظيمة، وترعب ملايينها العشرة وتقعدهم في بيوتهم، لا يسمعون إلا أصوات سيارات الإسعاف.
حسن مسعود أبو محمد، مصور الفيديو. الإنسان البسيط اللطيف الهادئ دائما. صديق الجميع. صور أعراس أبناء الجالية في نيويورك ونيوجرسي لمدة ثلاثين سنة. مصور تلفزيوني بارع. ترك العمل مع مؤسسات كبيرة مثل الأسوشيتد بريس، لأنها تتحكم في وقته وحياته. وأحب عمله الحر مصورا لأعراس ومناسبات الجالية، وليبقى قريبا من عائلته وأقاربه وأصحابه. أصيب بعدد من التعقيدات الصحية وتعافى من سرطان الدم، لكنه ظل يذهب مرتين في الأسبوع لغسيل الكلى في مستشفى جامعة نيويورك، الذي يعتبر من أفضل مستشفيات المدينة، كما حدثتني أم محمد بقلب مكسور على رفيق عمرها. فبدل أن يرجع من زيارته الدورية في وضع صحي أفضل أصيب بفيروس كورونا داخل المستشفى، ولأن لديه تعقيدات صحية أخرى، لم يمض عليه وقت طويل حتى مضى إلى حيث سنذهب جميعا، إصبري وصابري فـ»كل من عليها فان» يا أم محمد. رحمة الله على الإنسان الطيب النبيل حسن مسعود.
في الصفوف الأمامية من المعركة مع كورونا أصدقاؤنا الأطباء والممرضون والممرضات. نتصل بالدكتور باسل لنطمئن عنه وهو في الحجر الصحي، ونتلقى أخبارا أن الدكتور الشاب محمد أيضا أصيب بالفيروس. أحد اصدقائنا الأطباء دخل المستشفي قبل يومين وحالته حرجة. سألت عنه قبل كتابة المقال فقيل لي إن وضعه صعب، ودخل المستشفى هو وأولاده وزوجة ابنه. الطبيب الفلسطيني محمود المتخصص بعلاج الأوبئة والعمل في غرفة الطوارئ، أكد لي أن معظم الأطباء والعاملين في المجال الصحي يحملون الفيروس، وربما لا يعلمون فبعضهم يتعافى بدون أن يعلم، أو تكون عوارض المرض خفيفة يمكن التخلص منها بالحجر فقط. لكن الممرضين والممرضات في وضع أكثر خطورة. «نحن نمر على المريض دقائق ونسأله سؤالا أو اثنين ونمضي، أما الطواقم الصحية فهي التي تتعامل مع المصاب بشكل متواصل. كان الله بعونهم. هم الأبطال الحقيقيون». مقابل ثلاثة أطباء أصيبوا في مستشفى ستاتن آيلند هناك 122 أصيبوا من مجموعات المساعدات الطبية والصحية في المستشفى، كما أخبرني طبيب تعافى من الوباء اللعين.
كل ما نتمناه الآن أن يأتي مع خلاصنا من هذه الجائحة طرد ترامب من البيت الأبيض. وبعد سنين سيكتب التاريخ الجائحة التي أسقطت الرئيس المغرور. أما إذا أعيد انتخابه فربما نعود للاقتناع بنظرية المؤامرة، ونبدأ نفتش عن بلد آخر نرحل إليه.
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي