في الركن الشمالي الغربي من ساحة تقسيم الشهيرة بإسطنبول، تسير مجموعة صغيرة من الأطفال بين السيارات وتطرق على نوافذها في محاولة لجذب انتباه الركاب وبيع قناني المياه. غالبية هؤلاء الأطفال هم من غجر سوريا – ويُطلق عليهم أسماء كثيرة مثل: الدومري أو الدوميون أو النّوَر أو الغجر – وهم يُعدون من نواحٍ كثيرة الوجوه المنسية لأزمة الشرق الأوسط التي خلفت نحو 26 ألف طفل لاجئ بلا مأوى في جميع أنحاء أوروبا.
يتحدث الدوميون لغة خاصة بهم تعود أصولها إلى شبه القارة الهندية، ودوماً ما كانوا – حتى في أوقات السلم – يعيشون على هامش المجتمع، كما اعتادوا مواجهة تمييز يُمارَس ضدهم بشكل يكاد يكون عالمياً.
قبل اندلاع الحرب كان هناك ما يقارب 300 ألف من الدوميون يعيشون في سوريا. والآن، يعيش الكثير منهم في شوارع الأحياء الفقيرة بإسطنبول، ويُشكلون جزءاً من 366 ألف لاجئ سوري يبحثون عن حياة جديدة في المدينة التركية.
تارلاباشي
يقيم الكثير من هؤلاء في تارلاباشي، أقدم الأحياء الفقيرة في إسطنبول. وهو يبعد عدة شوارع فقط عن ساحة الاستقلال بمحاله الفاخرة، وقريباً من شارع السلاطين الذي كان يُطلق عليه من قبل اسم “باريس الشرق”. ولكن الحياة في تارلاباشي مختلفة جداً، فالحي مشهور بأنه مأوى للأقليات التي تعيش على هامش المجتمع في إسطنبول.
حتى في هذا الحي الفقير يعاني أطفال الدوميون من الازدراء. ويرفض باقي اللاجئين السوريين والأتراك اللعب معهم. عندما سُئل إلياس – صاحب المتجر الذي طلب عدم ذكر اسمه كاملاً – عن سبب نبذ الدوميون، أجاب ببساطة: “رغم أن نبذهم قائم على أحكام مسبقة، إلا أنني لا أستطيع أن أفسر الأمر، فقط لا أحب أشكالهم”.
لكن هناك منظمة واحدة تحاول المساعدة. في شقة صغيرة لا تتعدى مساحتها 70 متراً مربعاً، حيث المركز المجتمعي بتارلاباشي (TTM)، وهو مركز اجتماعي غير ربحي تأسس قبل 10 سنوات من قبل جامعة إسطنبول لبحوث الهجرة، وتم تمويله في البداية من قِبل الاتحاد الأوروبي. يديره 4 موظفين بدوام كامل، ومعهم ما يشبه الجيش الصغير من المتطوعين في جميع المجالات، بداية من المدرسين، والمحامين وحتى الموسيقيين، يقومون بتوفير الدعم التعليمي، وتقديم المشورات النفسية، والقانونية لحوالي 5000 طفل و3000 شخص ناضج في الحي. وأصبح بمثابة مقر للسلامة والراحة، بعيداً عن المخاطر التي تسود هذا القطاع من إسطنبول.
لمئات السنين كانت الشوارع الضيقة والمتعرجة للحي بمثابة البيت الهادئ للدبلوماسيين غير المسلمين، ثم للتجار اليونانيين من بعدهم، الذين عملوا في المنطقة التجارية المحيطة بساحة الاستقلال. ولكن في ظل التوترات الدينية خلال منتصف القرن العشرين، بدأت أعمال شغب تستهدف حينها غير المسلمين في المدينة.
على مدى العقود التالية، شغل الغجر، ويُطلق عليهم محلياً اسم “الرومان”، تلك المباني المهجورة، كما شغلها أيضاً اللاجئون الفارون من حرب السلطات التركية ضد الانفصاليين الأكراد في أواخر ثمانينات القرن الماضي. وما زاد من عزل هذه المنطقة تمهيد شارع ذي 6 مسارات فصل الحي عن المنطقة السياحية الثرية في إسطنبول.
يقول إبرو إرجون، وهو طبيب نفسي عمل في المركز على مدار السنوات الخمس الماضية: “العنف، وقضايا المخدرات، والدعارة بالتأكيد أكثر وضوحاً هنا أكثر من أي مكان آخر في المدينة. الشارع الرئيسي هو أحد أسباب ذلك الأمر. فقد فصل الحي عن المنطقة التي تحيط به، وحوّله إلى حي عشوائيات”.
يفشل العديد من الأطفال بمنطقة تارلاباشي في إكمال تعليمهم الابتدائي، قبل أن ينتهي بهم الأمر لأن يصبحوا متسولين أو عمالاً يعتمدون على الخدمات الاجتماعية التي تُقدمها الدولة. وبالرغم من هذا، فأطفال الدوميون لا يصلون حتى لهذه المرحلة في الدراسة.
تقول سيرين سونتكين، العاملة الاجتماعية في المركز لصحيفة “الغارديان”، إنهم “يعيشون في ظروف صعبة. يقومون غالباً بالتسوّل أو بيع أشياء بالقرب من المناطق السياحية، وتسعى الشرطة لمنعهم لا يتناسبون مع الصورة التي تحاول إسطنبول خلقها. يقوم “الدوميون” المحليون، الذين يسمون “الرومان”، في الأغلب بجمع القمامة من الشوارع، أو بيع الزهور، أو يعزفون الموسيقى في النوادي. ويسعون لتغيير نمط حياتهم والخروج منها، لأنهم عندما يذهبون إلى المدرسة يعاملون بشكل غير جيد، كما أنهم لا يملكون البيئة المناسبة للدراسة عندما يعودون إلى منازلهم”.
دروس في اللغة التركية
يقدم المركز المجتمعي بتارلاباشي دروساً في اللغة التركية للأطفال والكبار على حد سواء، وذلك حتى يتمكن العديد من السوريين والأكراد المقيمين في الحي من العثور على وظائف، وكسب رزقهم، أو إكمال تعليمهم.
تربى حسن كيزلار (19 عاماً) في مجتمع “الرومان” المحلي، لكنه تعلّم العزف على الكمان والبيانو وغيرها من الآلات في أوركسترا المركز. والآن هو نفسه يعمل كمتطوع في المركز، ويقوم بتعليم الموسيقى للأطفال، بينما يستعد لدراسة الاقتصاد في جامعة إسطنبول.
تقول إرجون: “لقد جاء من عائلة فقيرة جداً. لكنه ومثل العديد من أطفال الدوميون كان موهوباً للغاية. نحن نحرز تقدماً – وإن كان بطيئاً – في إقناع الأسر بالسماح للفتيات بإكمال تعليمهن، ونقدم دروساً في محو الأمية والمساواة بين الجنسين”.
الأهم من ذلك كله، أن المركز هو المكان الذي يمكن أن يلجأ له مَنْ يقع في ورطة ويطلب المساعدة. فقضايا العنف الأسري شائعة في تارلاباشي. وتصف إرجون محاولات المركز مؤخراً لمساعدة أسرة من المهاجرين، حيث كانت الأم وابنتاها تتعرضان للضرب والإساءة الجنسية من الوالد لسنوات عديدة.
وتضيف: “كانوا يأتون إلينا بانتظام. وحاولنا منذ فترة طويلة إقناع الأم بأن تذهب إلى ملجأ، وقد فعلت ذلك أخيراً. ووجدنا لها محامياً، والآن تم القبض على زوجها وأصبح الأطفال في أمان. كما ساعدنا المرأة على العثور على وظيفة، حيث لم يكن زوجها يسمح لها بالعمل. والآن لم تعد عالة على أحد، ونأمل أن تكون حياتهم أفضل”.
لكن شبكة الدعم هذه قد لا تتوافر لفترة أطول، فالحي يشهد تغييراً كبيراً. فقد خصص الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على مدى السنوات القليلة الماضية ما يقارب 100 مليار دولار لتطوير البنية التحتية، وتم وضع خطة للتحول الحضاري في الحي. خارج الحي تتناثر اللوحات الإعلانية العملاقة التي تصور الرؤى المستقبلية للحي ومشاريع البناء الجارية. وتصور اللوحات زوجين يتمشيان أمام شقق حديثة، ومحلات فاخرة، وفنادق.
يجري الآن وبسرعة هدم العديد من المباني المتهالكة الموجودة منذ القرن الماضي، التي كانت بمثابة منازل لأفقر من في إسطنبول. وقال عصام سعادت (نادل كردي يبلغ من العمر 51 عاماً يعيش في تارلاباشي منذ منتصف التسعينات) لصحيفة “الغارديان” إنه وبعد سنوات من الكفاح للبقاء، تم طرده في الخريف الماضي بعد صدور أمر من المحكمة. وأضاف: “هناك المزيد من الأموال القادمة إلى الحي، لكنها لن تذهب للأشخاص الذين يعيشون هنا الآن”.
قبل عامين، شهدت إسطنبول موجة من ارتفاع إيجار البيوت، ما كاد يؤدي لإغلاق المركز المجتمعي بتارلاباشي، ولكن مع مساعدة التبرعات استطاع المركز الاستمرار في تقديم خدماته.
تقول إرجون: “نظراً لعملية التحسين التي تتم هنا لجذب السياح، تريد الدولة من اللاجئين والمهاجرين الذين يعيشون في تارلاباشي الانتقال. سيكون عليهم الانتقال إلى أي مكان يستطيعون الذهاب إليه، وعندما يرحلون، سيكون علينا أن نرحل أيضاً. نأمل أن نتمكن من الذهاب وراءهم إلى موقعهم الجديد والاستمرار في تقديم المساعدة. فمركزنا هو أحد الأماكن القليلة الآمنة للأطفال حيث يُمكنهم اللعب، وحيث يمكن للمرأة أن تُناقش مشاكلها. لا يوجد مكان آخر يُقدم هذا”.