تعتبر سوريا من الدول ذات الثراء القومي والديني والمذهبي. إذ تتواجد فيها الأديان الثلاثة، الإسلام والمسيحية واليهودية، أكبرها الإسلام. وتضم سبع قوميات، أكبرها العربية. و19 مذهبا دينياً يتوزع بين المسلمين والمسيحيين. جميعهم يعيشون معاً في مناطق متداخلة، وإن كان ثمة تواجد لبعض القوميات أو المذاهب الدينية في مناطق معينة أكثر من مناطق أخرى بحكم عوامل التاريخ والهجرات. هذا التنوع منح السوريين ثقافة غنية تقوم في جوهرها على عدم اعتبار الآخر المختلف قوميا ودينياً على أنه غريب أو أنه مجهول. العيش المشترك والتفاهم الثقافي والاجتماعي عالي المستوى، جعل السوريين لزمن طويل جدا، لا يعرفون بعضهم انطلاقا من دين أو مذهب أو قومية، بل كسوريين، أو جيران في حارة واحدة، أو أقرباء في مدن متباعدة. لم يسجل التاريخ الحديث، وربما القديم أيضاً، أية حالة اقتتال أو صراع ديني أو مذهبي أو قومي بين السوريين. غالباً، لم يكونوا يعرفون الانتماء القومي أو الديني أو المذهبي لبعضهم البعض.
هذا التنوع، بقدر ما هو إيجابي، بقدر ما هو مكان خصب للسلطة المستبدة، إذ بإمكانها اختراقه لضمان بقائها في السلطة. وهذا ما فعله حافظ الأسد منذ توليه السلطة عام 1970 من القرن الماضي، واستمر به ابنه في حكم سوريا حتى الآن. فقد قام نظام الأسد الأب والابن على خلق شعور قوي لدى السوريين بالتوجس والريبة من بعضهم: قومياً ودينياً، جعل العرب يتخوفون من الأقليات القومية الأخرى تحت ذريعة أنهم يريدون تقسيم سوريا وبناء دول قومية خاصة بهم، وجعل الأقليات القومية الأخرى تتخوف من الأكثرية العربية بحجة أنها تريد إما ابتلاعهم أو طردهم من مناطقهم ومن البلد عامة. واستعاد مفهوم “حماية الأقليات” الاستعماري ليجعل الأقليات الدينية ترى في الأكثرية (السنية هنا) وحشاً جاهزاً للانقضاض عليها في أية لحظة، وجعل الأكثرية السنية تنشر، بألسنة مفتيها الذين عينهم نظام الأسد نفسه، أن الأقليات كفار ويجب قتالهم… هذا الشرخ الذي حاول النظام السوري تعميمه، كان يهدف لعدم إيجاد اتحاد شعبي يمكن أن يثور ضده في لحظة ما. فعوضاً من أن يبني دولة للجميع، بنى مجتمعاً مفخخاً جاهزاً للانقضاض على بعضه وقت اللزوم. واتخذ النظام في هذه الحالة موقع الحامي للمجتمع من الفلتان، على أنه هو الذي يمنع الصراع الاجتماعي الأهلي من الانفجار.
إلا أن ثقافة المجتمع السوري العميقة والمتجذرة عبر التاريخ كانت أكثر قوة من التصرف اللا أخلاقي الذي قام به النظام، فقد أدرك السوريون أن هذا النظام لا أخلاقي، وفاسد، وإرهابي تجاه شعبه وتجاه شعوب الدول المجاورة، فقاموا ضده في آذار 2011 جميعاً دون تمييز عرقي أو مذهبي. نعرف أن أول هتاف مطالب بالحرية في أول مظاهرة حدثت في دمشق في الجامع الأموي أطلقه مسيحي. وقد انطلقت مدينة عامودا الكردية بمظاهرات عارمة ضد النظام رافضة تنازلاته المزعومة أمام الأكراد وحقوقهم التاريخية، كذلك الأمر في مدينة السلمية ذات الأغلبية الاسماعيلية، والسويداء ذات الأغلبية الدرزية وهكذا…
لجأ النظام مجدداً مدعوماً من قوى إقليمية ودولية وميليشيات طائفية إلى إيهام بعض السوريين أن هذه الثورة إرهابية ضد الأقليات. وكي يؤكد روايته الزائفة هذه كان أن أطلق من سجونه في نيسان 2011، الكثير من المتطرفين الإسلاميين ليشكلوا فيما بعد كتائب مسلحة تمارس ما يمكن وصفه بالأعمال الإرهابية، وتدعو لحكم إسلامي، وسمح فيما بعد أيضاً بدخول داعش إلى سوريا بقوافل كبيرة مدججة بالأسلحة ومكشوفة للأعين المجردة وللناس.
لم يسقط النظام بعد سقوطاً فعلياً، ومقابل عدم سقوطه كان أن قتل أكثر من نصف مليون سوري، بما فيهم عدد مخيف من الأطفال والنساء، ودمر حوالي 70% من الأبنية والمنازل، وهجر حوالي أربعة ملايين شخص خارج سورية وحوالي 9 ملايين شخص داخل سورية.
أمام هذه الحقيقة وهذا الكلام البديهي، نعرف أن علينا كسوريين عدم الانجرار إلى ألاعيب النظام اللا أخلاقية، وأن نعرف أن فرقتنا مزعومة لم ينفك نظام البراميل عن خلقها وتزكيتها على مدار الساعة.
صدى الشام