يبدو ظاهرياً أن الوصول إلى تسوية في سوريا أمر بعيد المنال وصعب التحقيق، ذلك أن السلطة السياسية القائمة ترفض أي تسوية تتضمن تعديلاً أو تطويرا في النظام السياسي، أو تغيير أي شيء فيه سواء في هيكلية النظام أم في صلاحيات مؤسساته وأساليب عمله أم في ممارساته، ولا تقبل أي تسوية إلا إذا قامت المعارضة المسلّحة بتسليم أسلحتها، والاستسلام للجيش وحلفائه من الميليشيات، والعهدة لها القيام بالإصلاحات التي تراها، في مقابل تعيين عدد من المعارضين وزراء، وهذا كل شيء. أما المعارضة، فإنها لا تقبل أي تسوية من دون أن تكون على قاعدة تغيير النظام السياسي القائم تغييراً شاملاً، وإقامة نظام ديموقراطي تعددي تداولي، والعهدة بإدارة البلاد لسلطة حكم انتقالية، لها جميع الصلاحيات التشريعية والتنفيذية بما في ذلك صلاحيات رئيس الجمهورية. والملاحظ أن الفرق شاسع بين المشروعين والفجوة عميقة ونقاط التلاقي نادرة، واستطراداً فإن التسوية تبدو مستحيلة. لكن مع ذلك، فإن عديداً من المراقبين أو المحللين أو الدبلوماسيين من الدول الكبرى، يعتقدون أن التسوية قادمة خلال أشهر، وفي أبعد الإحتمالات فإنها ستوقّع هذا العام، لأن اللعبة أصبحت خارج الحدود ولا يحكمها طرفان سوريان متصارعان، مهما كان رأي كل منهما، فلا أهمية جدية وواقعية لموقفهما بإقرار التسوية، فهذه أصبحت بيد الدول الإقليمية والدولية، وسوف يكلف الطرفان السوريان بتوقيعها وتنفيذها بعد التوافق عليها دولياً، ولن يستطيع أي منهما الرفض لأن استمرار وجود كل منهما يرتبط بواحدة أو أكثر من هذه الدول “الصديقة”، وهكذا أصبح الوصول إلى حل للأزمة السورية يقع خارج الحدود، وما على الداخل إلا القبول. فكل طرف من هذا الداخل له حليفه الذي لا يستطيع أن يقول له لا، وما القول بغير ذلك سوى مزاعم لا مصداقية لها.
إنه من الصعب الوصول إلى تسوية للمحنة السورية وإيقاف نهر الدم الذي يجري والتدمير والمجازر، لكن ما بعد التسوية قد لا يقل صعوبة عنها، خصوصاً التئام الشروخ الداخلية بين تيارات الشعب الواحد التي حصلت خلال سنوات الصراع الأربع، وعودة اللاجئين السوريين من البلدان المجاورة وبلدان العالم الأخرى، وحل مشكلة المشردين والنازحين في الداخل، وإعادة هيكلة الدولة والحكومة والمؤسسات التابعة لهما، وبدء الإعمار الذي قد يحتاج لعشرات السنين ومئات مليارات الدولارات مما تعجز عنه سوريا، وربما تعجز عن دفعه الدول الإقليمية والمؤسسات المالية والاستثمارية الدولية .
إن الدولة السورية الآن مفككة، وحكومتها لا س لطة لها، والغموض يحيط بصلاحيات مؤسسات الدولة المقبلة، سواء ما يتعلق منها بصلاحيات السلطات الرئيسية أم بمهمات المؤسسات والإدارات. فقد كانت أجهزة الأمن مهيمنة على الدولة والحكومة والمؤسسات هيمنة كيفية وغير منهجية، وهذا يحتاج بالتأكيد إلى إعادة هيكلة السلطة والدولة والحكومة والمؤسسات، وتحديد الصلاحيات من جديد، ومن المهم أن يتأقلم الشعب السوري مع هذه الهيكلة، وتدخل في ثقافته وتقاليده، فهو يعيش منذ أكثر من نصف قرن في إطار مفاهيم للدولة لا تخلو من الأوامر الأمنية الكيفية والاعتباط والعشوائية وعدم الاستقرار، وينبغي لهذه الهيكلة والصلاحيات وما يتبعها أن تتم بأسـرع وقت بعد التسوية مباشرة.
من المهمات الكبرى لما بعد التسوية، معالجة التصدع الاجتماعي والثقافي وردم الهوة التي حدثت بين تيارات الشعب السوري الثقافية والطائفية والإقليمية وغيرها. وهذا لن يتم إلا بالعودة إلى تكريس مفهوم المواطنة كمرجعية رئيسة، والأهم هو اقتناع الشعب بذلك وتكريس هذا المفهوم وثقافته، وتماهي سلوكه معه، وتهميش المرجعيات الثانوية مهما كانت. ولا شك أن هذا يحتاج لوقت غير قصير، ومن المفروض أن تبدأ فور إقرار التسوية إعادة تربية وتشكيل وعي جديد. وعلى التوازي، لا مناص من إعــــادة بناء المدن والبلدات والأحياء والمساكن والبنية التحتية للبلاد بأشـمل جوانبها، وتأمين خدمات أخرى عديدة كالماء والكهرباء وغيرهما.
من البديهي أن يحاول الشعب السوري ودولته القادمة إعادة مسيرة الاقتصاد الوطني، وذلك بدءاً باستعادة الأموال السورية التي هُرِّبت خارج البلاد خلال الأزمة وقبلها (بلغ مقدار الأموال السورية خارج البلاد قبل الانتفاضة 130 مليار دولار) وإعادة بناء المعامل والمنشآت الصناعية، ومنظومة استخراج النفط، وإنعاش الزراعة من جديد وتنظيمها، وتنشيط السياحة ووضع أسس جديدة للترانزيت وآلية جديدة للنقل والتوزيع وتنظيم الاستيراد والتصدير (هذا إذا ألغى الغربيون العقوبات الاقتصادية بعد التسوية بوقت قصير)، مع افتراض أن هذه النشاطات والإجراءات وإعادة بناء الاقتصاد الوطني ومنابع الدخل سوف تؤدي إلى تراجع البطالة في البلاد، وتنشيط الاقتصاد، وتحسين قيمة الليرة وتقويتها، مع الأخذ بالاعتبار أن إعادة بناء الاقتصاد الوطني تقتضي الاتفاق على الإستراتيجية الاقتصادية للبلاد والسياسة الاقتصادية لها، وهل هي رأسمالية أم رأسمالية دولة أم حسب مقتضيات الاقتصــــاد الحر، فضلاً عن الموقــــف من القطاعين العام والخاص، ومن الاستثمارات الأجنبية التي ينبغي إغراؤها لتستثمر في سوريا وغير ذلك.
إن إعادة إعمار سوريا تستدعي اتفاقاً واضحاً ومفصلاً على هيكلية الدولة المقبلة وصلاحيات حكومتها ومجالسها وسلطاتها ومؤسساتها، بما لا يترك مجالاً لتفسيرات لاحقة أو غموض، تجنباً للخلافات عند التطبيق. كما تقتضي المرحلة المقبلة أن يصل الشعب السوري بكل فئاته إلى اعتبار مرحلة الإعمار قضية وطنية شاملة، لا تتعلق بالحكومة وحدها أو بمؤسسات الدولة، وإنما هي مهمة المجتمع كله والشعب بكامله، وأن يشعر الجميع أفراداً وفئات وتيارات سياسية بالمسؤولية الكاملة تجاه تحقيق هذا الهدف، وأن يتم في الوقت نفسه إيجاد الشروط الموضوعية والظروف المناسبة، لإبعاد الاستغلال والفساد ومحاولات الربح غير المشروع، والعمل الجدي لتحقيق تكافؤ الفرص بين الجميع، وفرض المساواة والمشاركة لجميع المواطنين. فهل هناك من يقدر على حمل هذه المهمات والتصدي لها، أم أتها مهمات مستحيلة التحقيق وعندها فلنقرأ على سوريا السلام؟
من المفروض أن إعادة بناء سوريا لا تتوقف على بناء المساكن والبنية التحتية والاقتصاد الوطني بمختلف جوانبه، وتقليص البطالة وتراجع نسبة الفقر فقط. إنما تتطلب أيضاً إعادة بناء الدولة وإقامة نظام سياسي جديد، يعتمد على المساواة والتعددية والديموقراطية وضمان الحرية وفصل السلطات، أي إقامة سوريا جديدة في مختلف جوانب الحياة، ما يجنب الشعب السوري استمرار الأحقاد وعمليات الثأر المتوقعة، فضلاً عن الفساد القائم، وأساليب التسلط والقمع، ويساعد على نهوض سوريا من تحت الأنقاض.
هكذا، فإن مهمات ما بعد التسوية في سوريا، ربما كانت صعبة أيضاً كالوصول إلى تسوية، ومثلما تقتضي هذه اتفاقاً إقليمياً ودولياً، فإن إعادة الإعمار تحتاج بدورها لمثل هذا الاتفاق، فمن دون مساعدة بل مشاركة من الدول الإقليمية وغير الإقليمية في تقديم المساعدات وتشجيع الاستثمارات لإعادة بناء سوريا، لن تقوم للبلاد قائمة. وما أظن أن أصدقاء سوريا على درجة كافية من القناعة والحماس للقيام بهذه المهمات. إذا صح مثل هذا التصور عن إعادة إعمار سوريا، فذلك أمر مليء بالصعوبات، ويحتاج لجهد كبير وصبر وشعور عال بالمسؤولية داخليا ًوإقليمياً ودولياً. ولعله من الحكمة أن نتوقع أن نتائج الأزمة السوريا، وإعادة إعمار البلاد، ربما كانت تحتاج لسنوات طويلة واستثمارات كبيرة. فالمسألة إذاً ليست فقط بالوصول إلى تسوية، بل من المهم أيضا الأخذ بالاعتبار ما بعد التسوية وصعوبة إعادة الإعمار معنويا ًوماليا ًومادياً.
حسين العودات – السفير