تَسْكُبَ الماء على كومة من التراب، تغوص يداها فيه، تُقلّبه بكفّيها مرةً تلوَ الأخرى ليمتزج، ترصُّ الحجارة قرب بعضها بعضا، واضعة قليلا منه بينها لتتماسك وتبني بها بيتا من الطين لعائلتها المشرّدة.
هل يمكن أن تصادر أملاكك دون علمك، كيف يؤثر قانون الإرهاب على المتهمين وعوائلهم؟؟
افتكار، نازحةٌ إلى ريف إدلب. تحاول جاهدةً أنْ تخفّف عن عائلتها وطأة النزوح، بعد ما تجرعوه من ويلات التشرد، إثرَ القصف والتهجير الذي مارسه نظام الأسد.
كانت تعيش حياة طيبة، ولديها بيتان بدلا من واحد. جارَ عليها الزمن ونزحت، تاركةً بيتَها وقريتهَا وذكرياتِها وسِنِيَّ حياتها في تلك البقعة من الأرض، لتحملَ همّها وهم عائلتها، وتمضي إلى مجهولٍ ينتظرها.
الحِمْلُ ثقيلٌ على افتكار، ثقيلٌ جدا، بَيْدَ أنّها مضطرةٌ أن تكون جَلْدَةً قوية، تصنع لعائلتها ما يعجز عنه كثير من الرجال.
مضى الصيف سريعا، وباغتهم الشتاء، فوجدت نفسها وعائلتها في العراء بلا مأوى، فقررت أن تبني لهم بيتا من الطين:
“فكّرت أني أعمّر لهم غرفة نتآوى فيها.. أحسن من الخيمة، وأمي موجودة.. تساعدني وتشرف علي.. عمرت لهم غرفة، وعم عمّر لهم مطبخ.. وإن شاء الله نظل مستمرين.. حتى لو نحن نزحنا أو جار علينا الزمن.. لكن هذا ما يعني أنو الإنسان تتوقف حياته.. لازم يتم مستمر.. ويتم نشيط”
تقول افتكار تلك الكلمات، وبريق الأمل يشع من عينيها، لم يُثنِ النّزوح عزيمتها، مرّت بكثير من المِحَن، ولكنّها لم تسمح لليأس أن يتسلّل إلى أعماقها، وعلى الرغم من ضنك الحياة وقسوتها، فهي عازمة على المضي قدما، فالحياة مستمرة ولا تتوقف.
تنحني قليلا لتحمل الصخرة وترصّها مع أختها لتكمل جدار البيت، لم يمنعها كبرُ حجمها وثقلها من حملها، لأنّ همّها الكبير الجاثم على صدرها أنساها كبر الصخرة وثقلها، فمسؤوليتها جسيمة، والشتاء على الأبواب، والعائلة في العراء بين السماء والطارق.
بابتسامة خفيفة بالكاد تُلْمَحُ من وراء اللثام تقول:
“الصخرة مجبورة أشيلها لأن همّي أكبر منها.. إجباري بدي أشيلها.. إي .. مشان هالأولاد”
فالأم تتحمل الكثير لأجل أبنائها، فكيف بهم إذا كانوا معاقين؟ فلدى افتكار ولدان معاقان؛ مصابان بالصّمَم، فلا يسمعان ولا يتكلّمان، ومع ذلك لم تتوقف عندهما الحياة، ودَرَسَا بفضل الله أولا، ومن ثَمَّ بفضل هذه الأم المكافحة؛ فالبنت في الصّف التاسع والولد في الصّف السادس.
تحلم افتكار بالعودة إلى ضيعتها، وهذا أكبرُ حلمٍ يراودها منذ خروجها منها، وتتمنى أن يعود كل مغترب إلى بلده ووطنه وبيته:
“حلمي أول شي أنو نرجع لضيعتنا، ويرجع كل مغترب لبلده وبيته، ولتعبه اللي تعب فيه، وجنى وبنى”
تنهي افتكار حديثها بهذه الكلمات، وكلّها أمل بالعودة إلى بلدتها، حالها حال الكثيرين ممن شرّدهم نظام الأسد وهجّرهم عبر مسيرة 10 سنوات من النزوح والحرب والدمار، إذ بلغت أعدادهم قرابة ال4 مليون نازح في إدلب وحدها، جاؤوها وهم يظنّون أنّها أيامٌ وربما شهور ومن ثم يعودون بعد أنْ تضع الحرب أوزارها، وما دَرَوا أنّها أيّامٌ ثِقالٌ وسنون عِجاف لايعلم انتهاءها إلا الله وحده.
بقلم : ظلال عبود
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع