الإنسان ابن بيئته ومنبته، فيتأثّر بهما بشكلٍ أو بآخر، وقد يتغيّر الطبع ويُصقل، فبعض طباع المرء مكتسب.
ما مصير العقارات التي تم شراؤها في الشمال السوري دون وجود أوراقٍ ثبوتيّةٍ رسميّة
فهل أثّرت البيئة في شاعرنا عليّ بن الجهم؟ وما قصّته مع “عيون المها؟ وما قصّة الرجل الذي قال للمرأة على الجسر: رحم الله علي بن الجهم، فردّت عليه: ورحم الله أبا العلاء؟
عليُّ بن الجهم شاعرٌ عبّاسي، ذكيَّ الفؤاد، كثير النّشاط، نشأ ببغداد، واختص بالخليفة العباسي المتوكل، فقرّبه منه واتّخذها خليلا ونديما، إلى أنْ أوقع ندماء المتوكل الآخرون بينهما، ووَشُوا به، فسجنه، ومن ثم نفاه إلى خراسان. وكثيرا ما استطاع الوشاة التفريق بين المحبّين والأخلّاء ولا سيّما في بلاط الخلفاء.
وللمتوكّل مع عليّ بن الجهم قصّةٌ طريفةٌ، تناقلتها بعض الكتب، ولكنها غابت في سطور كتب التراجم التي ترجمت لابن الجهم.
يُروى أنّ ابن الجهم كان بدويا صحراويا جافّا فظّا غلبت عليه حياة البداوة وقسوتها، فقصد بلاط المتوكّل، وأراد مدحه بالوفاء والشّجاعة والكرم، فاستقى ألفاظه ودلالاتها من البيئة البدوية القاسية، فقال:
أنتَ كالكلبِ في حفظك للودِّ وكالتّيس في قِراعِ الخُطوبِ
أنتَ كالدّلو، لا عَدِمْناكَ دلوا مِنْ كبارِ الدّلا، كبيرَ الذّنوب
فثار الحاضرون ودُهشوا كيف لهذا الشّاعر أن يشبّه الخليفة بالكلب والتّيس والدّلو، ولكن المتوكّل كان حليما، وفهم مرامي الشّاعر ومقاصده على الرغم من خشونة لفظه، وأدرك أنّ صوره وتراكيبه مستقاةٌ من البيئة التي يعيش فيها.
فما كان من المتوكّل إلّا أنْ أمر له بدارٍ جميلةٍ على شاطئ دجلة قريبةٍ من الجسر، فيها بستانٌ حسنٌ، ويرى من خلالها الحياة في بغداد، ويطالع الناس، ومظاهر مدَنيّتهم، وحضارتهم وترفهم.
وبعد أن أقامَ الشاعر مدّةً من الزّمن ما بين تلك الرّبوع الغنّاء ومجالسة العلماء والأدباء، استدعاه المتوكّل، فحضر وأنشده قصيدةً تفيض رقةً وعذوبةً، أدهشت الحاضرين، وذاع صيتها في الآفاق، ومنها قوله:
عيونُ المها بين الرّصافةِ والجسرِ جَلَبْنَ الهوى من حيثُ أدْري ولا أدري
أَعَدْنَ ليَ الشّوقَ القديمَ ولَمْ أكَنْ سَلَوْتُ ولكنْ زِدْنَ جَمْراً على جَمْرِ
وقُلْنَ لنا نحنُ الأهلَّةُ إنّما تضيءُ لِمَنْ يسري بليلٍ ولا تقري
وَمَنْ قالِ إنَّ البحرَ والقَطْرَ أشْبَها نَداهُ فقد أثنى على البحرِ والقَطْرِ
ولو قُرِنَتْ بالبحرِ سبعةُ أبْحُرٍ لَما بَلَغَتْ جدوى أنامِلِهِ العشرِ
فقال له المتوكل بعد سماعها: لقد خشيتُ عليه أنْ يذوب رقّةً ولطافةً.
فالبون شاسعٌ وواسعٌ بين أبياته الأولى وتشبيهه له بالكلب في الوفاء والتيس في الصمود في وجه الأعداء، وبين هذه القصيدة التي ابتدأها بالنسيب بكلماتٍ تفيض رقّةً وعذوبةً، ومن ثمّ انتقل إلى مدح المتوكل بصورةٍ بديعةٍ جميلةٍ تتماشى مع حاضرة بغداد ومياه دجلة العذبة، وحدائقها الغنّاء.
فلجأ هنا إلى التشبيه المقلوب، فعادة الشعراء تشبيه الكريم بالبحر وبالقطر، أما ابن الجهم فسلّط الضوء على كرم المتوكل بصورةٍ بديعةٍ، يُشَبّه فيها البحر والقَطر بالمتوكل في جوده ونداه، وهذا بحدّ ذاته ثناء لهما بأنْ أشبهاه في هذا.
ولا يكتفي بهذا وحسب، وإنّما يضيف أنّه لو اجتمعت بحور مع هذا البحر لما وصلت إلى كرم وجود يدي المتوكل.
فعلى اعتبار صدق القصّة فإنّ البيئة أثّرت في شعرعلي وصقلته، فضلاً عن مخالطة الأدباء والشعراء والعلماء، فجادت قريحته بأعذب الشعر.
وراح الناس يتغنّون بهذه القصيدة زمنا طويلا، وراح بعضهم يتمثّل بقوله لإيصال ما يريد توريةً، ومن ذلك قصّة لشابٍ وفتاةٍ، مفادها:
أنّ فتاةً بارعة الجمال أقبلت على الجسر في بغداد من جهة الرصافة، فاستقبلها الشاب قائلا: ” رحم الله عليّ بن الجهم”، فردّت عليه: ” ورحم الله أبا العلاء المعري” وما وقفا وإنما تابع كلّ منهما طريقه.
كان رجلٌ آخر يجلس على الجسر يتنزّه فلفت نظره ما قالاه فسارع إلى الفتاة وسألها: عن قصدها وقصده بما قالاه، فضحكت وقالت:
أراد بقوله قول علي بن الجهم:
عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
وأردت بقولي قول أبي العلاء المعري:
فيا دارها بالخيف إنّ مزارها قريبٌ ولكن دون ذلك أهوالُ
وتجدر الإشارة إلى أنّ هناك من يشكك برواية مدحه للمتوكل بأبياته تلك؛ لأسباب منها أنّ كتب التراجم لم تذكر هذه القصة في أثناء ترجمة علي، وأنّه مدحه في بداية تسلّمه الخلافة بقصيدةٍ أعذب وألطف، فضلا عن أنّ التشبيه في الكلب في أشعار العرب إنّما جاء في مجال الذّم لا المدح.
ومهما يكن من شيءٍ فإنّ علي بن الجهم شاعرٌ مطبوعٌ وله قصائد تشهد له، ومنها قوله:
أمَا ترى اليومَ ما أحلى شمائلَهُ صحوٌ وغيمٌ وإبراقٌ وإرعادُ
كأنَّهُ أنتَ يا مَنْ لا شبيهَ له وصلٌ وهجرٌ وتقريبٌ وإبعادُ
…..
بتصرف عن:
ديوان علي بن الجهم، محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار لمحي الدين بن عربي، وقصص العرب لمحمد أحمد جاد المولى وآخرين، ووفيات الأعيان لابن خلّكان، والأغاني للأصفهاني.
ظلال عبّود
المركز الصحفي السوري