” عام على الفراق ” قالها أبو محمد وقلبه قد شطر نصفين بعدما كانت مِثل ساعات ليلة البارحة قبل إعلان تحرير مدينة إدلب بالكامل بيوم هي الأخيرة له مع طفليه الاثنين وآخر نظراته على بيت والده الذي غلب عليه الدمار.
فمنذ أول لحظة اقتحام بدأ بها جيش الفتح لاقتحام مدينة إدلب وتحريرها من قوات النظام، أضحت المدينة تقدم شهداءها مقابل نيل الحرية تزامناً مع دمار واسع في البنية التحتية.
الأمس كان ذكرى عظيمة لسكان مدينة إدلب إذ أنها اكتست بثوب الحرية، لكنهم إلى الآن لا زالوا يلملمون جراحاتهم بعد أن تركت المعركة خلفاً فقيداً من كل منزل، وكان أبو محمد وزوجته من ضمنهم عقب دفعهم ثمن الحرية غالياً فقد أرسلوا للجنة عصفورين ( محمد في السابعة من عمره واخته ليمار التي تصغره بسنتين ) نتيجة صاروخ فراغي على منزل جدهم في أولى الغارات الأسدية على المنازل السكنية إثر سيطرة الكتائب الثورية على معظم أحياء المدينة عقب اقتحام دام لثلاثة أيام.
قلق وخوف يغمر قلوب سكان مدينة إدلب وسط ظلام دامس وانقطاع كامل للكهرباء والماء والاتصالات وشبح حظر تجوال، فلا شيء يعلو على أزيز الطائرات بأنواعها وأسرابها غير المعدودة، والاشتباكات متوزعة على شكل حرب شوارع بين الطرفين وصوت الرصاص هو من يطغى، تقول والدتهم:” شعرت بالخطر المحدق بنا وحاولت تجاهله علّني أشعر أطفالي بالأمان رغم اختفائه مطلقاً، غفت عيونهم ولم أدر أنها لن تفتح عيونهم بعد الآن على الدنيا”.
أما جدتهم التي دخلت في غيبوبة لمدة شهر تقريباً جراء شظية اجتاحت رأسها ثم صحت على خبر استشهاد حفيديها تقول:” لم ولن أصدق هذا الخبر الذي تلقيته وأنا مغتربة عن بلدي متكئة على سرير بمشفى تركي لا يسعني حتى أن ألمح وجههما الملائكي، فقط همساتهم وضحكاتهم تسيطر على مسمعي”..
اتبع النظام الأسدي سياسة الأرض المحروقة في انتقامه من مدينة إدلب وسكانها لأنه اعتبر الأخير هو الحاضن للثوار أو الإرهاب على حد زعمهم وهو من ساهم بتسهيل عملية دخولهم إليها، خاصة بعد أن خسر العدة والعتاد والمئات من قتلاه.
جَدٌ الطفلين كلما أراد الحديث عن تلك المآساة غط بشرود بعيد المدى متكلماً بشكل متقطع ليوازي بألمه ما قبله من أفراد عائلته، “غبار خيم على الأجواء عجاج أبيض تليه دقائق ليتضح حجم الخراب، أصرخ زوجتي، أحفادي ولا حياة لمن تنادي، سمعت ولدي يقول محمد ليمار أين أنتم أطفالي، من غير درايته أنهم فارقوا الحياة إلى حياة الآخرة باتوا فيها طيور بالسماء” يكمل الجد فقط وقعت عيني على جزء صغير من القميص الذي كانت ترتديه زوجتي ووقتها أدركت أنها لم تتحول إلى أشلاء كحال حفيديها الصغيرين اللذان تهشم رأسهما فأكبر قطعة من التخت الذي ناما عليه النومة الأبدية خالدين بسلام كانت فتاتاً.
ما قبل يوم التحرير وما بعده بقي وقع الصواريخ والبراميل المتفجرة مع الغازات الكيماوية الأسدية هم من أزهقوا أرواح مئات الأبرياء أطفالاً كانوا أم نساء فلقد بلغ عدد الأطفال الشهداء 20 ألفاً وإلى الآن لن تتوقف يدهم الحديدية عن المناطق المحررة وشعبها بشكل عام.
ولكن رأي والد الطفلين الشهيدين جاء مدهشاً للغاية وهذا ليس غريب فهو من آباء سوريا المشهورين بجبروتهم وثقتهم بالله قبل أن يكون فاقداً لطفليه و يقول:” في ساعات الليل المتأخرة بعدما أيقنت أن حياتهما انتهت هنا، أدركت أن لا هروب من قضاء ربنا والقدر فها نحن غادرنا منزلنا إلى منزل أبي لينكسر ظهري فيه والحمدلله الذي أعطى وأخذ والصبر لنا، لأنها دقائق تتعب قلبي بذكراها أثناء دفنهما في حديقة حارتنا بسبب تدهور الوضع الأمني والأصعب من ذلك كان نقل جثتهما المعطرتان بالمسك إلى المقبرة إثر هدوء الوضع نسبياً”.
” هما نالا الجنة وشرف الشهادة وشفعا لي ولكل محبيهم” قالتها أم الشهيدين والدموع غرغرت في عيونها متسلحة بالأمل والانتقام من قاتل أطفالها وملوع قلوب مئات الآلاف من الأمهات بشار الأسد، مواسية ذاتها متفائلة بتركيبها ” حسبي الله ونعم الوكيل، لا حول ولا قوة إلا بالله، قبل أيام رزقني الله بطفلة واستعاد اثنين إليه فحمداً لله”.
المركز الصحفي السوري – محار الحسن