تتهم موسكو الديبلوماسية الأميركية بالوقوع تحت سيطرة عسكر البنتاغون، لكن الأمور تبدو عندها اعقد بكثير من عقدة واشنطن البسيطة والإفتراضية الى حد بعيد، ذلك أن روسيا وعلى رغم ما يظهر على سطح الحدث بأنها تدير سياساتها العالمية وفق خطة سياسية ومن خلال قرارات مركزية يتم اتخاذها في سياق إستراتيجية اوسع، هدفها إعادة بناء أمجاد روسيا واستعادة تفوذها الدولي، إلا ان الأمور لا تبدو على هذه الشاكلة في الوقائع الجارية.
على مستوى صناعة القرار بخصوص الإنخراط في الحرب السورية، ليس ثمّة تأثير كبير للديبلوماسية الروسية ولا لتطلعاتها وخططها، وهي قد تبدو معزولة، حتى وإن بدا أن وزير الخارجية سيرغي لافروف هو الذي يوجه السياسات الروسية في هذا الإطار، بل أن الرئيس فلاديمير بوتين نفسه واقع تحت تأثيرات جهات روسية أخرى، وكانت ظهرت تحليلات كثيرة تتحدث عن أثر كارتيلات النفط والغاز الروسية، وبخاصة شركة «غازبروم»، في صناعة السياسات الروسية، ووقوفها وراء التوجهات الأخيرة لروسيا وبخاصة لجهة التوسّع بما يتطابق وخطوط نقل الغاز إلى أوروبا، من سورية إلى أوكرانيا، وانطباق المشروع الجيوسياسي الروسي مع طموحات «غازبروم».
وفي الواقع، ومع عدم نكران أثر العامل الاقتصادي في تحريك السياسة الروسية والتأثير في توجهاتها، غير أن المعالجات الروسية لإدارة الصراعات في العالم لا تنسجم مع احتمال وجود خلفية إقتصادية تحرك المشهد، بخاصة أن روسيا استطاعت تسوية أغلب الإشكاليات المتعلقة باحكتارها أسواق الغاز في أوروبا، وأن مشكلة اوروبا معها ليست ذات علاقة بهذا الجانب من التعاون الإقتصادي ولا بمجمل بنود هذا التعاون، ولا حتى بطموحات روسيا بأن تكون شريكاً سياسياً في أوروبا وعلى مستوى العالم، بقدر ما له علاقة بإشكالية إجراءات روسيا العسكرية العنيفة والاستخباراتية التخريبية في الجوار الأوروبي، وفي عمق القارة من خلال دعمها للتيارات المتطرفة.
هل نحن بصدد خلطة من المؤثرات التي تصنع السياسة الخارجية الروسية الى درجة يصعب تفكيك خيوطها؟ من الناحية النظرية فإن سياسات الدول وتوجهاتها لا تخرج عن هذه الوصفة، حيث يمتزج السياسي والاقتصادي والعسكري في مركب واحد، غير أنه في السياسة الروسية يبدو العنصر العسكري الأكثر فعالية في صناعة السياسة الروسية، وتظهر العناصر الأخرى مكملة لهذا العنصر وبخاصة الجانب السياسي الذي يفترض انه المسؤول عن إدارة التوازنات داخل الدولة، وما يؤكد هذا التحليل فرضية أن المخرجات الإقتصادية والسياسية تميل بدرجة أكبر إلى العقلانية في إدارة العلاقات، نظراً الى قدرتها على الموازنة بين الموارد والإمكانات، وبالتالي فإنها تذهب إلى تقييم الأمور بأقل من إمكاناتها الحقيقية والتي تختصم منها مسبقاً تأثير التداعيات المحتملة على صيرورة تطورها، في حين أن حسابات الجانب العسكري تظل نظرية إلى حد بعيد وتميل إلى احتساب الخسائر التي يقدر على تحقيقها في الطرف الآخر ثم إضافتها إلى ميزان قوته، ولعل هذا ما يفسر ندم كثير من القادة العسكريين في التاريخ على خطأ حساباتهم العسكرية وطبعاً يحصل ذلك بعد وقوع الهزيمة.
يظهر تطوّر العقيدة العسكرية الروسية في شكل انقلابي خلال فترة لا تزيد على عقد من الزمان، وتحولها من الإلتزام بحماية الأمن القومي الروسي داخل الإطار الجغرافي لروسيا، إلى عقيدة ذات طابع هجومي تدعو إلى تحقيق تغيرات حاسمة في مواجهة توسع حلف الأطلسي، يظهر مدى تأثير العسكر في توجهات روسيا الصاعدة، وبعيداً من التحليل، ثمة معلومات مؤكدة عن إحتلال القادة العسكريين والاستخباراتيين هيكل صنع القرار في روسيا، من أمثال سيرغي ايفانوف، رئيس ديوان الكرملين الحالي، وهو رئيس سابق لجهاز الأمن والاستخبارات ووزير دفاع سابق، ونيكولاي باتروشيف، الذي خلف بوتين في رئاسة جهاز الأمن والاستخبارات، والسكرتير الحالي لمجلس الأمن القومي، وسيرغي شويغو وزير الدفاع الحالي، فيما يتم تهميش رئيس الوزراء ديمتري ميدفيديف، رغم أنه الثاني في تراتبية صنع القرار، بحكم رئاسته مجلس الوزراء، وذلك نظراً الى آرائه الليبرالية.
يستطيع المراقب للإعلام الروسي في هذه المرحلة اكتشاف مدى الدور الذي يلعبه العسكر في صناعة رأي عام مساند للتوجهات العسكرية عبر احتلالهم الدائم للبرامج التلفزيونية وحديثهم عن الأخطار التي تهدّد الأمن الروسي الى درجة دفعت بعضهم إلى وصف ما يعيشه العالم على أنه حرب عالمية ثالثة، في محاولة واضحة لإعطاء العنصر العسكري الدور الأساسي في قيادة البلاد وتوجيه الأحداث، وغالبية هؤلاء المحللين، وحتى أولئك الذين يحتلون هيكلية صنع القرار، هم إما جنرالات هُزموا في أفغانستان، أو عاشوا لحظة سقوط الاتحاد السوفياتي، وعدا كونهم ينظرون الى الحدث من زاوية انتقامية، فإن خبراتهم السياسية لا تتطابق مع العالم المتشكّل في القرن الواحد والعشرين.
الإشكالية أن عسكر روسيا يختبرون قوتهم حتى اللحظة مع لاعبين أصغر حجماً من مقاسات قوتهم، كما في أوكرانيا وسورية، ويعممون نتائج تلك الاختبارات في قياس مدى قوتهم الحقيقي في البيئة الدولية، ولا يهم إذا كان هذا المعيار ينطوي على قدر من التضليل، بقدر ما هو مهم قياسهم ردود الفعل الدولية تجاههم حتى اللحظة، والأرجح انهم لن يكتشفوا الحجم الحقيقي لقوتهم وترتيبهم في سلم القوى الدولي من خلال المقارنة النظرية لحجم وأصول قوة اللاعبين الكبار، حتى يختبروها عملانياً، وذلك لن يحصل من دون المغامرة بمصير العالم.
الحياة غازي دحمان