عرسنا في الجنة.. تلك الجملة التي لا أنساها من أخي مصطفى قبل خروجه للجهاد، أخي مصطفى شاب في العشرين من عمره كان فظ الطباع لا يهاب أحدا، يفعل ما يريد.. كم كنت أخشاه حين يغضب لكنه تغير تماما حين رأى عائشة، تلك النازحة إلى ضيعتنا من هول القصف والدمار الذي أصاب ضيعتهم، كانت عائشة تكبره بسنتين، فتاة حسنة المظهر.. جميلة.. ذو روح مرحة، أصبحت جارتنا في البيت المجاور، بدأت أزورها من حين إلى آخر كون أهلها غرباء عندنا، فأردت تقديم يد العون لهم ، وهي بادلتني الزيارة بين الحين والآخر ، كانت فتاة جامعية لم تكمل دراستها بسبب الأحداث والظروف وأنا فتاة لم أكمل المرحلة الإعدادية من دراستي ومع ذلك لم أشعر يوما بفروق بيننا ، كانت غالبا ما تلاحظ تصرفات أخي مصطفى القاسية عليّ وكونها أكبر منه كانت تبادله الحديث ، وقفت في وجهه ذات يوم وصرخت به لسوء معاملته معي ، مصطفى لم ير قط فتاة في جرأتها .. تقف في وجهه علما أن أباه – حتى أبيه- لا يستطيع الوقوف في وجهه..
كنت أنا وأخي نسكن سويا بمعزل عن أبوينا بعد انفصالهما في بيت جدي العجوز ، بالرغم من قسوته كان يمتلك قلبا حنونا حقا ، يصرخ في وجهي… يشتمني… ثم يهدأ ليبكي عندما يراني أبكي ، استطاعت عائشة شيئا .. فشيئا تغيير عادات مصطفى ، كنت ألاحظ الفرق حقا في تصرفاته .
وبعد مناوشاته/ خلافات كلامية متشنجة/ عديدة بينهما أدركتُ أن الحب خفق في قلب أخي مصطفى، ولكني كنت أخاف عليه حقا من أن يتحطم بهذا الحب وأن ترفضه كونها أكبر منه ومتعلمة وهو لم يكمل دراسته للصف التاسع وأصغر منها بسنتين، ولكن الحب لا يعرف صغيرا ولا كبيرا ولا يعلم جاهلا ولا متعلما.. حين يخفق الحب تتلاشى كل الأشياء المحسوسة وتصبح أكثر روحانية.
وجدت عائشة خلف غضب مصطفى حنية افتقدتها في بيت أهلها ، لم تكن حالها بأحسن من حالي في البيت ، كانت تتعرض للظلم وللضرب أحيانا من أبيها وأخيها وكل منهما وجد في الآخر شيئا ينقصه وبدأت قصة حبهما المحرقة.
بعد شهور من الحب بينهما ، اضطرت عائشة للرجوع لبلدتها ، لم تكن تمتلك قرار البقاء مرغمة على العودة مع أهلها .. كنت أراقب ما يجري بقلب مدمى على حالهما ، لم يكن الوداع بالأمر السهل عليهما أبدا وهنا قرر أخي مصطفى بأن يتقدم لخطبتها متحديا الظروف والعوائق التي قد تمنع خطبتهما… وفعلا ما قد حدث هو رفض تام من قبل والدتي بعد أن ذهب وأخبرها لكونها أكبر منه وتبعا لعاداتنا لا يجوز ذلك ومع هذا لم يستسلم مصطفى ولم يكترث بما قالته والدتي وحاول مرارا وتكرارا ، لم يكن أحد ليشعر بما شعر به من ألم وبعد عناء طويل ذهب برفقته أناس ذو جاه ليتقدموا لخطبتها وازدادت الأمور تعقيدا في طريقهما … فلم ير والدها في مصطفى شابا قادرا على حماية ابنته في المستقبل بالرغم من أنه تغير وأصبح أفضل مما كان عليه إلا ان نظرة الناس له بقيت على ما عليه ، ولم يكن بمقدور عائشة فعل أي شيء تجاهه فليست بشاب لتقاوم أهلها وخاصة مع الظلم الذي تتعرض له ، وكلنا يعلم أن صوت الفتاة مغيب في هذا الأمر. أيعقل أن يموت ذلك البريق في أعينهما !!!!
لم يكن أخي ليستسلم أبدا ولم تكن هي بيائسة ، كانت تمده بالأمل دوما وكان واقفا هو بدوره إلى جانبها قلبا وقالبا وهنا التحق بفصيل الثوار في ضيعتنا وأصبح يخرج للجهاد وبدا أكثر التزاما وأهدى طبعا بكثير مما كان عليه ، يجلس على عتبة البيت شارد الذهن ، دابل العينين يفكر في مصيره المجهول مع عائشة وهل هناك أمل يا ترى ليجتمعا ؟
وذات يوم وقبل أن يخرج للرباط صباحا جاءه اتصال وتحدثت إليه عائشة تطمئن على حاله ، كانت على السطح خشية من أن يسمعها أحد من أهلها .. سمعته يقول لها (انزلي من ع السطح الجو خطر والقذايف ماعم تهدى) وما إن أكمل كلامه انقطع الخط .. حاول الاتصال بها مجددا إلا أن خطها مقفل ، ذهب إلى الجهاد وهو يعتقد بأن السبب كان ضعفا من الشبكة ولم يكن الأمر كذلك ، فخلال اتصال عائشة به وهي على السطح سقطت بالقرب منها قذيفة أدت إلى استشهادها في اللحظة نفسها ، لم أكن قادرة على اخباره بهذا النبأ …
أي فاجعة سيلقاها أخي بعد تعلقه الشديد بها .. ولكن لا يوجد شيء مخبأ وسيعرف بالنهاية لا محالة وبعد مضي ثلاث أيام على استشهادها عاد من الرباط وأثر وصوله فورا أخبرته جارتنا بما حدث .. يا لهول ذلك الموقف، كان بيتنا على تل مرتفع أصبح كل المجنون يخرج لينزل من على التلة ليصرخ بأعلى صوته عائشة ثم يصعد ليناديها من جديد وكأنه فقد عقله ، أبكى كل من رآه بتلك اللحظة وذهب إلى ضيعتها مصرا على زيارته لها ، لم يكن آبه بما قد يحدث .. ذهبت معه لكي لا تواجهه بعض المشاكل من قبل أهلها .. بكى وبكى عليها بحرقة وهو ممسك لتراب قبرها الطاهر فأبكى السماء معه وبدأت دموع السماء وليست أمطارها تتساقط بغزارة حزنا وألما عليهما ، أمسك بحجرة وضعت على القبر بالقرب من رأسها وقال لها عرسنا في الجنة يا غالية ثم دفن في ترابها خاتما كانت قد أهدته إياه عهدا منه بألا يتزوج بعدها .. وازداد حاله سوءا بعد استشهادها لم يعد يهنأ له العيش أبدا ولم يعد يمكث في البيت كما كان ، أمضى وقته وهو في ساحات المعارك طالبا الشهادة من الله ، حاولت أمي وأبي وكثيرون لتزويجه بعد شهور من وفاتها إلا أنه كان رافضا للفكرة تماما وآخر احتداد بينه وبين والدتي خرج من البيت غاضبا وهو يقول لها عرسنا في الجنة .. وتلك آخر كلمة أسمعها من أخي وآخر مرة أراه بها بعد بضعة أيام .. نال ما تمناه .. نال عائشة والشهادة معا سيكون عرسهما هناك عرسا يكتبه الله تشهده الملائكة ، أي عرس سيكون في الجنة هنيئا لهما حقا .. ذهب كلاهما وتركا قصة حب خالدة ستروى لأجيال قادمة.
نور سالم – المركز الصحفي السوري