إن من أسوأ ما يمكن أن يُبتلى به أي شعب هو تمثيله من قبل نخبة سياسية فاشلة، فكيف الحال في وضع الثورات، حيث الفوضى على أشٌدِها، مما يتطلب تمثيلا سياسيا متزنا ذا رؤية واستراتيجية واضحة.
لقد ابتُليت الثورة السورية منذ بدايتها ببعض الشخصيات التي أُطلق عليها لقب “المعارضة السياسية”، والتي أخذت تتصدر المشهد السياسي كممثل للثورة ومتحدث رسمي باسمها. ورغم فشل هذه المعارضة في مهامها منذ المراحل الأولى؛ إلا أن شخصياتها كانت تتنقل من كيان سياسي إلى آخر، فمن المجلس الوطني إلى الائتلاف ومنه إلى الهيئة العليا للمفاوضات… بدون أي تغيير حقيقي أو تطور يُذكر، إلا اللهم بأسماء تلك الكيانات.
غياب الرؤية والمشروع الوطني الجامع، الاستهزاء ببعض المبادرات المقدمة والتي كان من الممكن أن توفر الدماء والدمار، تخوين بعض الجهات لجلوسها و/ أو مطالبتها بالجلوس والاستماع إلى الأطراف الأخرى، رفع سقف المفاوضات مع عدم أخذ موازين القوى بعين الاعتبار، التبعية والارتهان للدول الداعمة… كل ذلك مَثّل بعضًا من السمات الأساسية لتلك المعارضة، ومع اعتراف بعض شخصياتها “مشكورين” بالأخطاء التي ارتكبوها خلال الفترة السابقة، وعدم فهمهم للسياسة وخباياها، إلا أنهم ما زالوا مُصرين على الاستمرار في تصدرها، وكأن الثورة ستنهار بمغادرتهم!
من أسوأ انجازات تلك المعارضة كان استجلاب العداء القاتل لبعض الدول، بدل جمعها على نصرة قضية الشعب السوري، ومحاولة التقريب بين وجهات النظر المختلفة؛ عن طريق مقاطعة مصالحها ضمن رؤية استراتيجية واضحة.
فليس من المستبعد أن وفد المعارضة، ومنذ البدايات، قد ذهب إلى روسيا و الصين، بلدان الحزب الديكتاتوري الأوحد، الأعداء الرئيسيون لأمريكا، تلك البلدان المعادية لقيم الغرب وخاصة الديمقراطية، ليطلب ذلك الوفد مساعدتها في القضاء على النظام الديكتاتوري، ذو الحزب الواحد، ليصل الشعب إلى حقه في الديمقراطية تَمثلا بالقيم الغربية!
ورغم وضوح المبدأ القائل بأن الدول تتحرك وفق مصالحها وليس وفق عواطفها؛ إلا أن المعارضة أصرت على مخاطبة تلك الدول وفق مبدأ العواطف، الذي لا يساوي ثمن الحبر الذي كتبت به هذه الخطابات العاطفية بالنسبة لتلك الدول.
أما بالنسبة لاختيار الحلفاء؛ فقد أثبتت السنون أن ما يجري في سورية بالنسبة لبعض “الداعمين” من دول الخليج لا يتعدى كونه محرقة تتخلص فيها من كل الشباب ذوي الفكر “الجهادي”، بالإضافة إلى إغراق ايران، العدو الأكبر، في هذا المستنقع المستنزف لها ماديا ومعنويا.
وقد مثلت أمريكا أسوأ الحلفاء على الإطلاق، فقد امتلكت مشروعا مسبقا للمنطقة (مشروع الشرق الأوسط الجديد)، والذي يهدف بشكل رئيسي إلى حفظ أمن إسرائيل، الذي لن يتحقق –وفق أدبيات الأخيرة- إلا عن طريق تفتيت المنطقة على أساس عرقي وطائفي (يمكن العودة إلى: “A strategy for Israel in the nineteen eighties” لمؤلفه Oded Yinon). ومن نافلة القول ذكر مصالح أمريكا في الحصول على ثروات المنطقة من خلال شركاتها العابرة للقارات التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من النظام العالمي الجديد، والمتحكم الأكبر به، وعليه فإن المعارضة يجب أن تتيقن أن مساعدات أمريكا وتحركاتها لن تكون إلا لتحقيق هذه الأهداف.
هذا يعني أن المعارضة السورية اليوم أصبحت أمام مواجهة حتمية لاختيار أفضل الأسوأ من ناحية الموازنة بين الفرقاء، ولن أقول حلفاء، لعدم وجود حليف حقيقي.
هل يعني هذا تبريئا لروسيا من جرائمها البشعة؟ بالطبع لا، فما أقدمت عليه في سورية سيبقى مسطورا في عقول السوريين وقلوبهم والعالم أجمع، ولكن ليس هناك الكثير من الخيارات، فإما الاستمرار في التباكي على ما أقدمت عليه، أو الاتسام بالواقعية والاعتراف بعدم الحصول من “أصدقاء سورية” إلا على معسول الكلام، وبالتالي توجب البحث عن جهة افضل، بدون إغفال أن هذه الأخيرة هي الوحيدة القادرة على لجم إيران وأطماعها التوسعية في سورية.
أما النظام الأسدي المجرم؛ فإنه لم يعد يمثل إلا واجهة، وورقة تفاوض تتحكم بها بعض الأطراف، بعد قيامه بقتل شعبه وتهجيره، وبيع بلاده، فلا يمكن لمثل هذا النظام إلا أن يكون مبغوضا من الأصدقاء قبل الأعداء، وسيكون التخلص منه سهلا في حال توافق القوى الدولية على ذلك.
إن التقارب الروسي- التركي الحاصل الآن، مع محدودية التدخلات الأمريكية بسبب الفترة الانتقالية التي تمر بها، هي من الفرص القليلة الباقية التي لن تتكرر بسهولة، والتي يجب أن تقوم المعارضة بدعمها ومحاولة إنجاحها بعد وضع رؤية واضحة لتقاطعات المصالح، وموازين القوى. وإن حصول أي تأخير على أمل التدخل الأمريكي، لن يجلب إلا الوبال على سورية، فذلك التدخل لن يكون إلا لتدمير ما تبقى منها بغاية تحقيق المشروع الأمريكي في المنطقة، أو ربما إبادة الملاذ الأخير للمعارضة المسلحة في إدلب، بعد أن تم تجميعها لتكون هدفا يمكن القضاء عليه بكل سهولة، وبغطاء دولي جاهز يُدعى “مكافحة الإرهاب”.
على المعارضة اليوم إعادة تقييم تحالفاتها، ومصالح الفرقاء، مع التصرف على أسس وطنية بعيدة عن الارتهانات الإقليمية والدولية، والانفتاح على كافة المبادرات انطلاقا من تقييم القوى الحقيقة في سبيل إنقاذ سورية.
إن كان هناك ورقة ضغط تملكها المعارضة الآن فهي أن كل الفرقاء باتوا بحاجة ماسة إلى إيجاد حل للمسألة، فإطالة عمر النزاع على الأرض لا يخدم أيا من الاطراف مهما بدا الأمر معاكسا ظاهريا.
مجابهة المبادرات بالـ “لاءات” المعهودة، سقف المطالب المرتفع المعتمد على المعادلات الصفرية، تكفير الجلوس مع الفرقاء، عدم وجود أوراق ضغط تزامنا مع خذلان تام من “أصدقاء سورية”… كل هذا سيؤدي إلى المزيد من الخسائر والتنازلات الحقيقية على الأرض، هذا ما أثبتته السنوات الست الماضية.
فهل سترتقي المعارضة من مستواها الشعبوي العامل وفق مبدأ “ما يطلبه الجمهور”، المرتهن بالدول الداعمة، إلى مستوى وطني حامل لمشروع ورؤية واضحة قبل فناء سورية أرضا وشعبا؟!
دينا رمضان – ترك برس