بعد اللقاء الذي جمع الرئيس الأميركي، باراك أوباما، بكل من الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ومن ثم بالرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على هامش قمة المناخ في باريس، وعلى إثر إقرار عقوبات روسية ضد الصادرات التركية، رمى حلف شمال الأطلسي، يوم أمس الأربعاء، بعدد من أوراقه إلى الساحة دفعة واحدة، لإجبار موسكو على العودة إلى طاولة المفاوضات، لكن وفق شروط حرمت روسيا كثيراً من أوراق القوة التي كانت تتمتع بها سابقاً، فتم إعادة فتح ملف توسع الحلف في يوغسلافيا السابقة بضم جمهورية الجبل الأسود، ومن ثم إرسال تعزيزات عسكرية إلى الحليف التركي لدعم قدراته الدفاعية، وأيضاً الحديث عن تعزيز أمن الحدود السورية التركية بالتعاون مع تركيا وباقي الحلفاء، أي إنشاء المنطقة الآمنة أو الخالية من تنظيم “داعش”.
ويبدو بوتين في حال لا يحسد عليه، داخلياً فإن الاقتصاد الروسي متهالك بعد حرب البترودولار التي شُنت عليه، وخفضت أسعار النفط الذي يعتمد عليه الاقتصاد الروسي، إلى أدنى مستوياته، منذ أعوام، وبعد العقوبات الغربية التي رفعت نسبة التضخم وهوت بالروبل الروسي. أما خارجياً فمعركة القرم مع أوكرانيا لم تنته، وفي سورية تم خداع بوتين وتوريطه بتقديم دعم عسكري مباشر للنظام السوري.
وخرجت قمة بروكسل لوزراء خارجية حلف الأطلسي بقرارات مهمة للغاية، وبعد إعلان الإدارة الأميركية، قبل أيام، عن نشرها قوات خاصة في كل من سورية والعراق لإجراء مهمات محدودة ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش)، خرج وزير الخارجية الأميركي جون كيري، بعد انتهاء القمة، ليؤكد، أنه ستبدأ المشاورات حول التعاون مع القوات الجوية والبرية التركية لتأمين الحدود السورية التركية، قائلاً “إن الرئيس (رجب طيب) أردوغان ملتزم تماماً وعلى استعداد للمضي قدماً مع القوات التركية، بالتعاون مع الآخرين، للمساعدة في ضمان أمن الجزء المتبقي من الحدود السورية التركية تحت سيطرة داعش”، في إشارة إلى 98 كيلومتراً التي يسيطر عليها التنظيم، والتي تُشكّل قلب المنطقة الآمنة التي تعمل تركيا وحلفاؤها في الخليج على تنفيذها، قبل أن تتمدد المنطقة في تصريحات سابقة لأردوغان لتصل إلى البحر، أي بضم كل من ريف حلب الشمالي كاملاً بما فيه منطقة عفرين الواقعة تحت سيطرة حزب “الاتحاد الديمقراطي” (الجناح السوري للعمال الكردستاني) ومنطقة إدلب، وأيضاً شمال اللاذقية بما في ذلك كسب الواقعة تحت سيطرة النظام.
ولأول مرة بعد التدخّل الروسي المباشر في سورية، يوسّع حلف شمال الأطلسي من تواجد ترسانته العسكرية في المنطقة، بل ويتحوّل إلى العمود الفقري إلى جانب تركيا في التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد داعش. وبعد الاتفاق التركي الأوروبي قبل أيام، علمت “العربي الجديد” أن كلاً من ألمانيا وفرنسا تقدمتا بطلب لاستخدام قاعدة “إنجرليك” العسكرية، الأولى سترسل طائرات استطلاع من نوع تورنادو، أما الثانية تود استخدام القاعدة كمركز انطلاق لطائراتها خلال العمليات العسكرية ضد التنظيم، وأيضاً استخدام باقي القواعد الجوية في حالة الطوارئ، بينما تقدّمت باريس، أيضاً، بطلب إضافي لتركيا لكي تحصل حاملة الطائرات “شارل ديغول” المتواجدة في المتوسط على الدعم اللوجستي من ميناء تاشوجو على المتوسط والتابع لولاية مرسين، ومن المتوقع أن ترحب أنقرة بكل هذه الطلبات.
وأكثر من ذلك، أكد الأمين العام لحلف شمال الأطلسي يانس ستولتنبيرغ، بعد قمة وزراء خارجية الحلف، أن الحلف ليس فقط ملتزماً بالدفاع عن تركيا، بل إن لديه خططاً طويلة الأمد للدفاع عن تركيا، مضيفاً: “أن الحلف يبحث، أيضاً، في إجراءات حمائية إضافية لتركيا سيتم استكمالها في الأسابيع المقبلة، من بينها تزويد أنقرة بمعدات عسكرية، حيث سيتم إرسال مقاتلات بريطانية، كما ستقوم كل من الدنمارك وألمانيا بإرسال سفن حربية إلى المتوسط”.
كما أنه من المتوقع أن يتم تعزيز منظومة صواريخ “باتريوت” التابعة للحلف في جنوب تركيا، لمواجهة تهديد منظومة “إس 400” التي ثبتتها روسيا في مطار حميميم العسكري في اللاذقية، وذلك بعد أن كانت كل من واشنطن وبرلين قد سحبتا البطاريات التابعة لهما العام الحالي، حيث بقيت البطاريات الإسبانية وحيدة.
يأتي هذا بينما وجّه ستولتنبيرغ، دعوة إلى دولة الجبل الأسود للانضمام إلى التحالف العسكري رسمياً، وذلك بعد انتظار أكثر من 6 سنوات من بدء الجبل الأسود بمسيرة الانضمام إلى الحلف عام 2009، ما يُعتبر ضربة جيوسياسية كبيرة لموسكو، خصوصاً أن انضمام الجبل الأسود قد يليه جورجيا والبوسنة والهرسك ومقدونيا التي أعربت مراراً عن رغبتها في الانضمام والتعاون بشكل وثيق مع الحلف.
وبدا الانزعاج الروسي واضحاً في تصريحات ديميتري بيسكوف، المتحدث الإعلامي باسم بوتين، عندما أكد أن موسكو ستتخذ إجراءات لضمان أمنها، كرد على مواصلة توسّع حلف شمال الأطلسي وتوسيع البنية التحتية العسكرية التابعة للحلف شرقاً. وأعرب بيسكوف عن احتجاج روسيا على استمرار الحلف في التوسّع، مذكّراً بتعهّد قيادة الحلف بوقف توسعه بعد تفكك الاتحاد السوفييتي. كما أعلن رئيس لجنة الدفاع في مجلس الشيوخ الروسي، فيكتور أوزيروف، لوكالة أنباء “ريا نوفوستي”، أن روسيا ستجمد مشروعات مشتركة مع الجبل الأسود، بينها التعاون العسكري.
في مواجهة هذا التصعيد من حلف شمال الأطلسي، تبدو خيارات الروس بوجه الكتلة الغربية هذه المرة محدودة، فحلف وارسو لم يعد له وجود، ومجموعة الدول المستقلة أضعف من أن تحل محله، والصينيون غير مهتمين بفتح جبهة مع أي أحد خارج شرق آسيا. أما الإيرانيون، وإن كانوا حلفاء موسكو، لكن قضيتهم المركزية الآن، هي إنجاح الاتفاق النووي ورفع العقوبات، وأي شيء آخر قابل للتفاوض، ليبقى الخيار الوحيد، هو إمكانية التعاون مع قبرص واليونان لإفشال الاتفاق الأوروبي التركي، الأمر الذي تبدو حظوظه ضعيفة في ظل الإصرار الأوروبي الواضح لاحتواء تركيا بشكل أكبر لمواجهة التمدد الروسي.
وسعت روسيا لرفع النبرة ضد تركيا، إذ اتهمت أردوغان، وعائلته بالتورط في منظومة شراء النفط من تنظيم “داعش” في سورية والعراق، وهو ما نفاه الرئيس التركي تكراراً. وقال نائب وزير الدفاع الروسي، أناتولي أنطونوف، في مؤتمر صحافي، أمس الأربعاء، إن “إيرادات بيع النفط من أهم مصادر نشاط الإرهابيين في سورية، إذ يحصلون على حوالي ملياري دولار سنوياً، وينفقون هذه الأموال على تجنيد المسلحين في كافة أنحاء العالم وتزويدهم بالسلاح والمعدات”.
وأضاف: “تركيا هي المستهلك الرئيسي لهذا النفط المسروق من أصحابه الشرعيين في سورية والعراق. حسب البيانات المتوفرة، فإن القيادة السياسية العليا للبلاد والرئيس أردوغان وعائلته متورطون في هذا الاقتصاد الإجرامي”. وعرضت وزارة الدفاع الروسية، خلال المؤتمر الصحافي، خرائط جغرافية وصوراً من الأقمار الصناعية قالت، إنها تظهر تدفقاً من الصهاريج والشاحنات على الحدود السورية التركية.
لكن في مقابل ذلك، تبدو الأجواء جاهزة لبدء خفض التوتر الروسي التركي، خلال لقاء قد يُعقد بين وزيري خارجية البلدين. فقد أعلن وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أمس، أنه لن يرفض الاجتماع مع نظيره التركي، مولود جاووش أوغلو، في بلغراد في وقت لاحق، هذا الأسبوع، على هامش اجتماع المجلس الوزاري لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا.
العربي الجديد