على مسافة أشهر من إدارة أميركية جديدة، تنكب مراكز الأبحاث ومؤسسات الرأي النافذة في واشنطن على مراجعة السياسة الخارجية للرئيس باراك أوباما والتي أثارت كثيراً من الجدل طوال السنوات الثماني التي أمضاها في البيت الابيض، في محاولة لإبراز انعكاسها على الأمن القومي الاميركي والضغط على الرئيس العتيد لتجنب ما شابها من اخطاء أو تصحيحها.
وليس هذا التقليد جديداً في السياسة الاميركية، إذ غالباً ما تلجأ مؤسسات بحثية كبرى في نهاية كل عهد إلى تقديم جردة عن أداء الادارة المنتهية ولايتها، الا أن ما يميزه هذه المرة، بحسب صحيفة “الواشنطن بوست” هو الإجماع بين باحثين وخبراء ومسؤولين سابقين وديبلوماسيين من الحزبين، الجمهوري والديموقراطي في وقت تشهد البلاد استقطاباً بين الجمهوريين والديموقراطيين في خضم حملة انتخابية شرسة ولا سابق لها ربما في تاريخ الولايات المتحدة.
وأمكن تحقيق هذا الاجماع بسبب السجال المستمر بين البيت الابيض من جهة والمؤسسات البحثية النافذة، اليسارية منها واليمينية، على خلفية السياسة الخارجية لأوباما، وخصوصاً في الشرق الأوسط، والتي رفضها كثيرون معتبرين أنها تشكل تهديداً لمكانة واشنطن في العالم. ويعكس هذا الاجماع أيضاً خوفاً من نداءات المرشح الجمهوري لانسحاب الولايات المتحدة من دورها كضامن عالمي للأمن.
أهمية المنطقة لأميركا
منذ السنوات الأولى لعهد أوباما واعلان عزمه على التركيز على آسيا، المنطقة الصاعدة، بدأت النقاشات في واشنطن في شأن تراجع أهمية الشرق الأوسط لأميركا، وانتفاء الاسباب التي حتمت إقامة الشركة الوثيقة بين واشنطن وبعض دولها.
وفي سياق هذا النقاش المستمر، يبرز مركز التقدم الأميركي، وهو ليبرالي، تحديات تواجه المشهد الجيوسياسي العام الذي ظهر بعد نهاية الحرب الباردة، بما فيها موجة لا سابق لها من الهجرة العالمية وسلوك روسي أكثر حزماً وتنافس كبير تشكله الصين، معتبرة أن الشرق الأوسط تحول عنصراً أساسياً في هذه التحديات.
وعلى هذا الاساس، تقول الدراسة التي وضعتها مجموعة من الخبراء في الأمن القومي والسياسة الدولية إن إدارة الرئيس المقبل ستواجه شرقاً أوسط يتخبط في توترات إقليمية عدة وحروب أهلية وانهيار للدول سببه أزمات سياسية وتهديدات التنامي السريع للشبكات الارهابية والعدد القياسي للاجئين وتفاقم الضغوط الاقتصادية والتنمية البشرية. وهذه التحديات مع موجة جديدة من القوى القمعية المستبدة تتطلب من الادارة الجديدة اعتماد مقاربة طويلة المدى واستباقية لهذه المنطقة التي “لا تزال مهمة للولايات المتحدة لثلاثة أهداف رئيسية”.
أولاً، حماية أمن الولايات المتحدة والدفاع عن الحلفاء: فالشرق الأوسط يقع جغرافياً في قلب منطقة أوسع تسمى أحياناً “محور الازمات” الذي يضم دولا مثل افغانستان وباكستان. و يثبت انتشار داعش حول العالم وموجة اللاجئين الاخيرة أن النزاع داخل المنطقة لا يزال يشكل تهديداً للامن خارج الشرق الاوسط، وخصوصاً لحلفاء أميركا في أوروبا. وعلى رغم الوضع الأمني السيئ والحروب التي تشهدها المنطقة حالياً، من الخطإ الافتراض أن الوضع لن يسوء أكثر ويتيح حرية أكبر لتحرك الشبكات الإرهابية. من هذا المنطلق، على أميركا أن تبقى حذرة حيال سيناريوات عدة، بما فيها احتمال تطور نزاعات متشابكة في سوريا إلى حرب شاملة بين دول وتصاعد التوترات بين قوى إقليمية رئيسية الى مواجهة عسكرية مباشرة.
ثانياً، الفرص الاقتصادية وحماية المصالح الاقتصادية الاميركية حول العالم: فعلى رغم ظهور الطاقة المتجددة ومنتجين جدد للنفط والغاز، بمن فيهم أميركا نفسها، لا يزال قطاع الطاقة في الشرق الاوسط حيوياً للاقتصاد العالمي. فمضيق هرمز وباب المندب وقناة السويس لا تزال ممرات اساسية للتجارة . أضف الى ذلك أن دولاً ثرية في المنطقة تتجه الى تنويع اقتصاداتها، وهو ما يوفر فرصاً جديدة للنمو الاقتصادي والاستثمار المباشر.
ثالثاً، القيم والمعركة من أجل الكرامة الانسانية والحرية في مواجهة التطرف: على رغم أن الطريق لتحقيق هذه الاهداف صعب، لا تزال أميركا مهتمة في الحفاظ على القيم العالمية التي تجسدها الحريات الاربع للرئيس الراحل فرانكلين روزفلت، وهي ألا وهي حرية التعبير والمعتقد والتحرر من العوز والخوف.
وعلى رغم التحديات المتشابكة، تلفت الدراسة إلى فجوة متزايدة في السنوات الاخيرة بين واشنطن و شركائها التقليديين في المنطقة، على خلفيات عدة، بما فيها الردود الاميركية المختلفة على الانتفاضات العربية منذ 2011 والخلافات على دور الإسلام السياسي وموقف أميركا من الحرب في سوريا والمخاوف من انعكاسات الاتفاق النووي الايراني.
لجم إيران وتقييد روسيا
وفي دراسة أخرى لمعهد بروكينغر تصدر في كانون الأول، يحذر الديبلوماسي المخضرم مارتن أنديك من أن النظام العالمي بقيادة أميركا والسائد منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية بخطر. أما السؤال الأهم في رأيه فهو كيف يمكن إعادة تحديث ذلك النظام العالمي.
ويشرف أنديك على مجموعة من الديبلوماسيين السابقين الذين عملوا في إدارات أوباما وجورج بوش وبيل كلينتون. ويدعو هؤلاء الى تحرك أميركي أكثر حزماً للجم إيران ووضع حد للفوضى في الشرق الأوسط وتقييد يد روسيا في أوروبا.
ويقول فيليب غوردون المستشار البارز السابق لأوباما في السياسة الخارجية حتى 2015، إن هذا الاجماع على مقاربة جديدة هو رد فعل على رئيس ركز دائماً على أخطار التوسع والحاجة إلى ضبط النفس، وخصوصاً في الشرق الأوسط، مع العلم أن ثمة اقتناعاً واسعاً بأن عدم التحرك بما يكفي أو الإقرار بقيود القوة الاميركية، لهما أثمان.
سوريا
وتلتقي الاراء الواردة في الدراسات والتقارير مع المواقف “المعلنة” للمرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون، وتختلف جذرياً مع أوباما في الملف السوري، وخصوصاً لجهة الدعوات إلى عمل عسكري أكبر لردع نظام بشار الأسد والقوات الروسية في سوريا.
أما الاجراءات العسكرية المقترحة فتشمل مناطق آمنة لحماية المقاتلين المعتدلين وغارات اميركية محدودة بصواريخ كروز لمعاقبة الأسد إذا واصل قصف المدنيين ببراميل متفجرة، كما يحصل في حلب.
الهدف الفوري في رأي وزيرة الخارجية الاميركية السابقة مادلين أولبرايت التي ترأس فريقاً من الحزبين يتولى وضع استراتيجة للشرق الاوسط في معهد “أتلانتيك كاونسيل”، يكمن في تخفيف المصائب عن المدنيين”. وهي تعتقد أن ثمة “حاجة الى تدخل اميركي أكبر-لا يصل الى حد ارسال قوات برية، وإنما بعض المساعدة الاضافية في ما يتعلق بالجانب العسكري”.
ويذهب ستيفن هادلي، وهو مستشار سابق للأمن القومي في إدارة بوش، وشريك لأولبرايت في “أتلانتيك كاونسيل” إلى القول إنه إذا واصل الأسد قصف المدنيين، على الولايات المتحدة أن تفكر جدياً باستخدام “أسلحة مواجهة، مثل صواريخ كروز لتعطيل سلاح الجو التابع له ومنعه من التحليق”.
اغتيال الأسد؟
وتلتقي هذه الدعوات مع آراء الصقور في الكونغرس الذين ضغطوا طويلاً على البيت الابيض للتفكير في خيارات أكثر حدة في سوريا. وخلال إيجاز مغلق في الكابيتول هيل الخميس الماضي، اقترح أحد مساعدي النائب دوغ لامبورن، وهي جمهوري من كولورادو مقاربة مختلفة، متسائلاً: “ماذا عن اغتيال الأسد؟”.
وقالت مجلة فورين بوليسي امس إن الاقتراح أثار الاستغراب في القاعة التي ضمت نحو 75 من المساعدين لنواب وسناتورات استضافهم مجلس العلاقات الخارجية في جلسة نقاش. أما الخبير الذي عرض عليه هذا الاقتراح فكان فيليب غوردون الذي رفض الفكرة معتبراً أنها غير قانونية وغير فاعلة، استناداً الى أحد الحاضرين.
وفي رأي أندرو بوين، الخبير في الشأن السوري في مركز ويلسون، أن “اغتيال الاسد سيحدث بالتأكيد فوضى في دمشق…الا أنه لن يؤدي بالضرورة الى انهيار النظام، وكل من ايران وروسيا يوفر حماية شخصية كبيرة للأسد وعائلته، لذا لن يحصل ذلك”. وأضاف: “لا أعرف ما اذا كنا نريد ارساء سابقة بقتل الزعماء على طريقة الحرب الباردة”.
ليس متوقعاً أصلاً أن توافق الادارة المقبلة على أي شيء من هذا القبيل، بحسب المجلة الاميركية، لكن مؤسسة السياسة الخارجية في واشنطن تبدو جدية في البحث في حلول عسكرية أكثر صرامة للحرب المستمرة منذ ست سنوات تقريباً.
الثابت أن لا أحد في مجتمع السياسة الخارجية يدعو الى عودة لسياسات بوش التي أدت الى اطاحة نظام الرئيس صدام حسين وغزو العراق. ما يدعو اليه هؤلاء الخبراء هو حل وسط في الشرق الاوسط بين سياسة التدخل لبوش والتقشف لأوباما. ولكن ما ليس واضحاً بحسب “الواشنطن بوست” ما اذا كانت سياسة كهذه تحظى بشعبية بين الرأي العام الاميركي القلق من الحرب في الشرق الاوسط والمعارض في شكل كبير لأي مساعدة لدولة أجنبية.
جريدة النهار