بعد ما جرى ويجري في تركيا، هل سنكون أمام شرق أوسط جديد، ولكن، هذه المرة، بنكهةٍ تركية؟ أي نكهةٍ يغلب عليها طابع تغليب إرادة الشعوب، وتحدّيها قوى الغدر، بجيوشها، وعسكرها وجنرالاتها؟ وليس كما بشّرتنا كوندوليزا رايس، عندما كانت مستشارةً للأمن القومي، ووزيرة للخارجية الأميركية سابقاً، أننا بصدد شرق أوسط جديد، يأتي بعد مخاض صعب لفوضى خلاقة، تبثها أميركا وحلفاؤها في المنطقة؟ وعلى مدى نحو عقدين، لم يُولَد ذلك الشرق الأوسط الجديد الذي بشرت به “كوندي الجميلة”، كما كان يطلق عليها رئيسها چورج دبليو بوش الإبن.
لعل هذا الدرس التركي، أخيراً، وغير المسبوق، هو أكثر ما يُقلق كل قوى الغرب التي وقفت بشراسةٍ تدعم الثورات المضادة، لإجهاض (أو وأد) كل ثورات الربيع العربي التي كانت تبشر بعصرٍ جديد لفرض إرادة الشعوب في شرقنا الأوسط البائس، والتحرّر من الفاشيات العسكرية، والسلطوية القهرية التي تحكمه عقوداً، إما باسم الحق المقدّس لأسر وعائلات وعصبيات وشيوخ قبائل، أو باسم وصاية الجند على الشعوب، بقوة السلاح، وسطوة الجنرالات من ذوي القبعات الحمر.
وبعيداً عن ردود الأفعال الانفعالية، والعاطفية، التي صاحبت الحدث التركي الجلل المتمثل في محاولة الانقلاب العسكري، وهو ليس أمراً جديداً في تركيا، من لحظة البداية، وحتى لحظة الفشل، وهو الأمر الجديد في تركيا، وسط ذهولٍ مصحوبٍ بالدهشة لدى كل المراقبين، والمتابعين. في البداية، قوبلت محاولة الانقلاب من قوى الثورات المضادة ومؤيديها في العالم العربي، بالترحاب الشديد الذي وصل إلى حد البهجة التي اتسمت بالصبيانية في بعض الحالات، وبتحفظٍ حذرٍ من قوى الغرب، في انتظار ما تسفر عنه الأحداث، منعاً للتورط في مواقف قد تسبب أضراراً مستقبلية، أيا كانت نتائج المحاولة الانقلابية. وانتهى الأمر، بعد فشل محاولة الانقلاب، بخيبة الأمل لقوى الثورات المضادة، وتنديد قوى الغرب، على استحياء، بمحاولة الانقلاب، مع فرحةٍ سادت الأوساط الشعبية العربية.
وبعيداً عن ذلك كله، علينا أن نتوقف ملياً أمام الدروس الأكثر عمقاً وتأثيراً في المحيط الإقليمي لتركيا، حتى لو كانت النتائج ستأتي متأخرة بعض الوقت، وإن كانت، حتماً، ستأتي. هناك ثلاثة عناصر رئيسية شكلت جوهر الأحداث في التجربة التركية الجديدة، الجيش والشعب، ونعني به قوى الشعب الجماهيرية، والنخب، السياسية والعسكرية والثقافية، وهي ما يُطلق عليها قادة الفكر والرأي ذات التأثير.
الجيش هو من أطلق الشرارة الأولى فى محاولة الانقلاب العسكري الذي ثبت أنه كان مبنياً على تخطيطٍ جيد ودقيق، حتى إن الطلائع التي تحركّت، مبكراً، نجحت في السيطرة على المفاصل الرئيسية للدولة التي تضمن نجاح الانقلاب، وأي إنقلاب، وهي المطار الرئيسي، ومحطة تلفزة رسمية، ومحاور حركة رئيسية متمثلة في جسور البوسفور، وغيرها من الطرق، مع قصف القصر الرئاسي، ومقري البرلمان والمخابرات، ومديريات الأمن الرئيسية، ومقرّات الحزب الحاكم، وغيرها من المقرّات الرسمية، ومهاجمة الفندق الذي كان يقيم فيه الرئيس، بغرض اغتياله أو اعتقاله، والذي كان قد غادره قبل الاقتحام بدقائق، بعد تلقيه تحذيراً عن المحاولة الانقلابية، ثم إذاعة البيان الأول للانقلاب الذي أعلن استيلاء الجيش على السلطة، وقد تم ذلك كله في الساعات الأولى للمحاولة التي شاركت فيها عناصر من القوات الجوية والبرية والجندرمة وخفر السواحل، وأيضاً عناصر من قوى الدرك والأمن العام.
ولم يبق سوى إعلان باقي قيادات (وتشكيلات) القوات المسلحة تبنيها ذلك الانقلاب، وبالتالي، القبول أو الإذعان الشعبي، وينتهي الأمر كما كان يحدث، وحدث، في ثلاثة انقلابات عسكرية سابقة. ولكن، حدث ما لم يكن في الحسبان.
وما لم يكن في الحسبان هو موقف قطبي المعادلة الآخران، المدنيان، وهما النخب على اختلاف أشكالها، السياسية بجناحيها، حكومة ومعارضة، وقد تميّزت بقدرٍ نادر من رباطة الجأش، وشجاعة المواجهة، بدأت بقوى الحكم، من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء الرئيسيين، مثل الدفاع والداخلية والخارجية، بإعلان رفض المحاولة الانقلابية، وإدانتها، ودعوة الشعب، بجماهيره للنزول إلى الشوارع، للتصدّي لها بصدورهم العارية، وسارعت قوى المعارضة، بكل توجهاتها، إلى تأييد ذلك التوجه، وإعلان موقفها الحاسم ضد محاولة الانقلاب العسكري، ودعوة جماهيرها إلى النزول إلى الشوارع، والتصدّي للانقلابيين من العسكر المتمردين.
ثم جاء دور النخبة العسكرية، ممثلة في عدد من كبار القادة، في مقدمتهم رئيس الأركان، وهو أعلى رتبة عسكرية والقائد الفعلي للقوات المسلحة، وعدد من قادة الجيوش والأسلحة، والذين بادروا إلى إعلان أن من قاموا بالمحاولة خارجون على القانون والتقاليد العسكرية التركية، والأوامر التي تصدر عنهم لجنودهم غير قانونية.
وكان موقف النخبة الثقافية، والإعلامية، والفنية، متوازناً، فلم يروّع الناس، ولم يخدعهم، أو يضللهم، لكنه قدّم لهم الحقيقة، وهي أن ما يجري محاولة للانقلاب العسكري ضد نظامٍ تم اختياره بطريقةٍ ديمقراطية، وعلى الشعب أن يتصدّى له، حمايةً لإرادته الحرة.
تحرّكت العناصر، أو الأقطاب الثلاثة للمعادلة، الجيش والشعب والنخب، طبقا لتلك القواعد، وجاءت النتائج مبهرة. فشلت الطغمة العسكرية المنقلبة، وكان موقفها مخزياً، وانتصر الشعب بقواه ونخبه، والتفاصيل معروفة، لا داعي لتكرارها، وكان المشهد في الميادين، ولا يزال، مهيباً، ووقف العالم أمامه مبهوراً.
تهمنا هنا الدروس التي سيكون لها حتماً، انعكاسات حادة على مسارات التغيير، والتحوّل، في الشرق الأوسط، والتي سوف تُكسبه “النكهة التركية” في ظل الخلفية التاريخية والثقافية للشعب التركي بطبيعة الحال. أول تلك الدروس هي المتعلقة بالجيش، ويمكن حصرها في الآتي:
– الجيوش لا تهزم الشعوب الحية، لأن الجيش ملك للشعب، والدبابات والسلاح أمانة في يد العسكر، ولا يجب توجيه بنادقه لصدور الشعب. ومكان الجيوش حدود الوطن والثكنات، وليس الشوارع.
– حتمية الاحترافية العسكرية، والالتزام بالأوامر القانونية، وهذا يعني أن الجيوش تحمي، ولا تحكم، وتكتسب شرفها العسكري ومكانتها، متى التزمت بذلك.
والدرس الثاني الرئيسي أن القوى السياسية، في الحكم وفي المعارضة، تكتسب قوتها، وصلابتها، من الظهير الشعبي الحقيقي الذي تستند إليه، وليس لأنها مجرد ظواهر صوتية، ترفع شعاراتٍ جوفاء، وتتحرّك في فضاءات افتراضية، كما الحال في دول عربية عديدة، في الشرق الأوسط.
يبقى الدرس الأهم من التجربة التركية أن الشعوب مصدر السلطات، وصاحبة السيادة. والجيوش، وقوى الأمن، وما نُطلق عليها في بلادنا الأجهزة السيادية، مثل المخابرات والرقابة بأنواعها، ملك للشعوب، وعليها إدراك أن ما في يدها من أسلحة ووسائل قوة أمانةٌ سلمتها لها الشعوب، للدفاع عنها وحمايتها.
وعليها إدراك الفرق بين التنافس السياسي للتداول السلمي للسلطة والانقلابات العسكرية للاستيلاء على السلطة المدنية المنتخبة ديمقراطياً بإرادة الشعوب، ولعل هذا يفسّر ما يجري في تركيا حالياً، تحت عنوان إعادة هيكلة القوات المسلحة، وهو، في حقيقة الأمر، يتجاوز ذلك إلى ما يمكن أن نسميها “إعادة تموضع للمؤسسة العسكرية”، لإخضاعها تماماً للقيادة السياسية المنتخبة، وهو ما نعنيه بالقول إن تركيا تخرج من مصافّ دول العالم الثالث، وهو ما على الجميع إدراكه.
لن تذهب دروس “التجربة التركية” سدى. ولكن، يبقى السؤال الأهم: متى ستدرك شعوب الشرق الأوسط تلك الدروس؟ وهل ستكون قادرةً على استيعابها وتطبيقها؟ عندما يحدث ذلك سنكون بالفعل أمام شرق أوسط جديد. ولكن، بنكهةٍ تركية.
العربي الجديد – عادل سليمان