آلاف من المعتقلين في سوريا ما زالوا يواجهون مصيرا مجهولا، حيث لا يعلم ذووهم مكان اعتقالهم، رغم انقضاء سنوات على اختفاء النسبة الأكبر منهم في سجون النظام السوري. ومع فشل ذوي المعتقلين في الوصول لأبنائهم، وتسريب آلاف الصور لمعتقلين تمت تصفيتهم بطرق وحشية في أقبية سجون النظام السوري، جعل الخوف يتملك قلوب جميع أهالي المعتقلين، ودفع الكثيرين منهم لتقديم الغالي والنفيس لمعرفة مصير أبنائهم، بعد أن فشلوا في العثور عليهم بين الصور المسربة.
ومع كثرة المحاولات الفاشلة، التي سعت من خلالها عائلات المفقودين في سجون النظام السوري على مدار أعوام لمعرفة مصير أبنائهم، وجدت شخصيات في النظام السوري في هذا الأمر مجالا يعود عليها بمبالغ مالية هائلة، حيث أقدم مسؤولون كبار في النظام السوري الأمني، ممن يمتلكون زمام ملف المعتقلين، على فتح مكاتب تجارية تختص بشؤون المعتقلين فقط.
أعمدة هذه المكاتب السرية هم ضباط الأمن في الفروع الأمنية التي تحوي بداخلها معتقلين، وقضاة في المحاكم العسكرية وخاصة محكمة الإرهاب، ووسطاء، وبعض المحامين، حيث تنتشر هذه المكاتب وسط دمشق بشكل عام، وبالقرب من المحاكم بشكل خاص.
تروي “رقية.ع” لـ”عربي21″ ما جرى معها، حيث تتحدث عن تفاصيل الطريقة التي أفرج بها النظام السوري عنها قبل عدة أيام من خلال هذه الشبكات، علما بأنها كانت قد اعتقلت قبل ثلاثة أعوام بتهمة الخروج بمظاهرات مناوئة للنظام السوري في ريف دمشق.
وتقول رقية: “قام زوجي بعشرات المحاولات لمعرفة مكان احتجازي، حيث قام بتوكيل أكثر من ستة محامين خلال هذه الأعوام، وكل محام يخبره بمكان اعتقال مختلف عما أخبره السابق، ولم ينجح أي منهم من طمأنته حولي، إلى أن سدت الطرق بوجهه”.
وتضيف: “ولكن قبل ثلاثة أشهر، وخلال تواجده في العمل الوظيفي الرسمي في إحدى مؤسسات الحكومة السورية، جاءه أحد الموظفين يسأله حول مصيري، إن كان قد أطلق النظام السوري سراحي أم ليس بعد”.
وتقول: “طبعا هنا ما زال زوجي محترسا تماما، فكلمة قد تخرج منه تجعله يلاقي مصيري بدقائق. إلا أن الموظف الذي ينحدر من الطائفة العلوية تحدث عن امتلاكه لطريقة ممتازة لإطلاق سراحي من السجن، مؤكدا أن زوجي لو طرق “أبواب الجن” لن يعثر علي إلا من خلاله”.
وتتابع رقية: “هنا بدأت تتكشف الأمور تباعا، حيث قال لزوجي: أعطني اسم زوجتك الثلاثي، وتاريخ الولادة، وتاريخ الاعتقال، وسأخبرك غدا بمكان اعتقالها. وفي اليوم التالي اتصل بزوجي قبل ذهابه إلى عمله، طالبا منه مبلغ 300 دولار أمريكي، كونه استطاع الوصول إلى مكان اعتقالي. وفعلا ذهب زوجي إلى عمله وأعطاه المبلغ، وأخبره زميله الموظف أنني مودعة لدى محكمة الإرهاب في دمشق على ذمة التحقيق”.
وتكمل رقية قصتها قائلة: “بدأ الأمل يعود لزوجي، تزامنا مع استعلاء الموظف، حيث بات زوجي المحتاج، وهو مجبر، بالجري خلف زميله الموظف، وبعد يومين طلب زوجي منه معرفة التهمة الموجهة ضدي، فقال له: معرفة نوعية التهمة تكلف 750 دولارا أمريكيا. فقال له زوجي: نعم موافق. وفعلا بعد أقل من ساعتين أعلمه بأن تُهمتي هي التظاهر. طبعا معرفة التفاصيل يجب أن تكون بالتوالي، فممنوع أن يطلب أمرا قبل آخر”.
وتقول رقية: “بعد ذلك، وعقب انقضاء أسبوع كامل، عاد ذاك الموظف، وسأل زوجي: ما رأيك أن أقوم بتأمين اتصال لك مع زوجتك لمدة دقيقة فقط؟ هنا زوجي وبكل اندفاع قال له: موافق”.
وتتابع: “وفعلا اتفقا على ساعة محددة عقب انتهاء الدوام، وجاءني أحد الحراس، وأخذني إلى غرفة التحقيق، حيث قام القاضي المحقق، بوضع الهاتف المحمول على أذني، وقال لي: تكلمي، وتحدثت إلى زوجي دقيقة كاملة أحسست مدتها عاما كاملا، رغم أن الكلمات كانت مبعثرة، والأحرف متداخلة، ومن ثم أعادني الحارس إلى المعتقل مجددا”.
وبعد ذلك بدأت مرحلة جديدة، إذ إنه “عقب انتهاء المكالمة اتصل زميل زوجي به، طالبا مبلغ 1500 دولار أمريكي ثمن المكالمة الهاتفية، كما سأله إن كان يريد صورة لي، فإنها تكلف مبلغ 2000 دولار، ولكنه سيراعي وضعه ويأخذ منه أجرة المكالمة والصورة فقط 2500 دولار أمريكي. وتقول رقية: “وفعلا تم ذلك، وقام زوجي بإعطائه المبلغ بعد ألف كلمة ترجٍ، وألف بوسة يد” على حد قولها.
وهنا انتهت الجولات، وبدأ البازار الأكبر، “وهو إطلاق سراحي” كما تقول رقية، مشيرة إلى أنه تم اشتراط “أن يوافق زوجي على أن يأخذني، ونغادر البلاد خلال 24 ساعة فقط، وأن يقدم طلب إجازة من العمل مدة ثلاثة أشهر بدون راتب”.
وتقول: “بعد مناقشة لمدة ثلاثة أيام، وافق زوجي على الشروط، فكان المبلغ المطلوب لإطلاق سراحي هو عشرة آلاف دولار أمريكي، حيث قام زوجي بتجميع المبلغ من عائلته وعائلتي ومن بعض المعارف والأقارب”.
بعد ذلك، تقول رقية، “جاء زميله الموظف إلى مكان اعتقالي، وأجلسني في مكتب خاص، وطلب مني ارتداء ملابس كان قد أرسلها لي زوجي معه، وأن أستعد للمغادرة مباشرة من المعتقل إلى الحدود السورية اللبنانية، حيث سيكون زوجي وأولادي بانتظاري. وفعلا هذا ما جرى، وخرجنا عن طريق الحدود البرية، وخرجت من سوريا، ولم أستطع النظر للخلف، فقد أحسست أنني لأول مرة أكرهها جدا” حسب قولها.
وختمت رقية حديثها قائلة: “ثلاثة أعوام كانت مريرة، لن تصفها الكلمات ولا الدمعات. لم أحاكم ولم توجه لي أي تهمة، وإن كل ما جنيناه عبر عقدين من الزمن وضعناه في عدة أيام”.
وتقول: “كيف سأنسى أن أحد شروط الإفراج عني هو إبعادنا عن بلدنا، عن طريق هذه الشبكة التي يديرها أزلام من النظام. وإن مثل هذه الشبكات كثيرة، فحدث ولا حرج”. وترى أن “كل ما دفعناه من مال سيعود غالبيته للنظام، وقسم منه لأعضاء هذه الشبكة”، التي يضم طاقمها القاضي، وضابط الأمن في المعتقل، والموظف الوسيط، وهم “جميعهم من أبناء طائفة بشار الأسد (علويون)، حيث يتاجرون في قضايا المعتقلين، التي من المستحيل لأحد سواهم أن يفعل هذا، بسبب امتلاكهم السلطة التي تشرع كل أفعالهم” حسب تعبيرها.
عربي 21