يُعدّ السوريّون الذين تركوا أرضهم ولجؤوا إلى تركيا هرباً من الحرب، أوفر حظاً من مواطنيهم الذين توزّعوا على دول أخرى في الجوار. لكنّ ذلك لا يمنع هؤلاء من الشكوى.. هم يفتقدون إلى الاستقرار
بعد أكثر من خمس سنوات على اندلاع الحرب في سورية وما رافقها من نزوح ولجوء مستمرَّين، بات نحو ثلاثة ملايين لاجئ سوري في تركيا يمثّلون جزءاً من الواقع المجتمعي والاقتصادي التركي. هؤلاء يعيشون حياة جيّدة نسبياً نتيجة تسهيلات عدّة قدّمتها لهم الحكومة التركية، إلا أنّهم لا يجدون ذلك كافياً لمنحهم حياة مستقرة أو آمنة أو لإبعادهم عن المخاطر وحمايتهم من الاستغلال.
لا يحمل القسم الأكبر من السوريين في تركيا اليوم إقامات رسمية، ولا حتى صفة “لاجئ”. هم بمعظمهم حاصلون على بطاقات حماية مؤقتة، لا تعدّ ذات قيمة قانونية خارج تركيا ولا في المطارات، تمنحهم إياها الوكالة التركية لإدارة الكوارث “آفاد” ويستطيعون من خلالها الاستفادة من بعض الامتيازات التي أقرتها الحكومة التركية لصالحهم، من قبيل تلقي الرعاية الطبية والتسجيل في المدارس واستئجار المنازل والإذن بالعمل.
عواقب عدّة تحول دون حصول السوريين على إقامات رسمية في تركيا، بحسب ما يقول المحامي السوري عماد الدين الجندي الذي يشرح أنّ “القسم الأكبر منهم لا يستوفي الشروط اللازمة. فكثيرون لا يملكون جوازات سفر صالحة مع أختام دخول نظامية، إذ إنّهم إمّا تسللوا عبر الحدود أو لم يتمكّنوا من استخراجها من مؤسسات النظام، لا سيّما من القنصلية خلال ثلاثة أشهر من تاريخ دخولهم إلى تركيا، وهي الفترة التي يسمح خلالها بالتقدّم للحصول على إقامة. يُضاف إلى ذلك عدم امتلاك السوريين بمعظمهم المبلغ المالي الكافي في حسابات مصرفية والذي يعادل ستة آلاف دولار أميركي”. ويتابع: “بالتأكيد حصل كثيرون على إقامات رسمية، من قبيل إقامات طالبية وسياحية وإقامات عمل، إلا أنّ هذا لا ينطبق على الشريحة الكبرى من السوريين هنا. هؤلاء لا يستطيعون الحصول إلا على بطاقة الحماية المؤقتة”.
رحلة بلا عودة
بطريقة أو بأخرى، يعيش السوريون الذين لا يملكون إقامة رسمية في تركيا اليوم، كأسرى داخل البلاد، بمعظمهم. من يحمل بطاقة الحماية المؤقتة لا يستطيع السفر من تركيا والعودة إليها من أيّ بلد كان، إذ تشترط السلطات التركية على حاملي البطاقة الحصول على إذن سفر قبيل المغادرة، كذلك تشترط تسليم بطاقة الحماية. ويوضح الجندي أنّ “السوري يفقد كل الحقوق التي تمنحه إياها بطاقة الحماية بمجرّد مغادرته الأراضي التركية وتسليمها في المطار، إذ تعدّ باطلة. بالتالي، لا يستطيع العودة إلى تركيا إلا بعد الحصول على تأشيرة دخول رسمية من بلد آخر”.
هذا الواقع يمنع السوريين حاملي هذه البطاقة من زيارة أيّ بلد بغرض الزيارة. أمّا من يرغب في السفر، فعليه أن يجهّز نفسه لرحلة ذهاب بلا عودة، وأن يضمن الحصول على إقامة في البلد الجديد. ويخبر محمد عطا الله وهو سوري يعيش في مدينة إسطنبول: “أعمل في إحدى الجمعيات الإنسانية الدولية، ولدينا تدريبات دورية في المغرب. حصلت على تأشيرة الدخول لكنّني لم أستطع المغامرة والذهاب، لأنّه لن يُسمح لي بالعودة إلى هنا، في حين سوف أرحَّل من المغرب بعد الفترة القانونية وينتهي بي الأمر في إحدى غرف المطار أو مرمياً عند أحد فروع الأمن الجوي السوري”. ما ذكره عطا الله سبق واختبره مواطنه فادي منصور الذي علق لمدّة عام كامل في مطار أتاتورك في إسطنبول، وكان على وشك القبول بالترحيل إلى سورية قبل أن تعدّ منظمة العفو الدولية حملة تضامن معه انتهت بقبول أستراليا طلب لجوئه إليها.
تجربة مشابهة اختبرتها جميلة الحلواني التي تعيش بعيداً عن عائلتها منذ أشهر. تقول: “لديّ زوج وثلاثة أطفال، ونقيم في تركيا منذ عام. قبل شهرين، توجهت إلى الإمارات بتأشيرة سياحية لزيارة والدتي المريضة. وحين أردت العودة إلى تركيا بعد أسبوع، أوقفت في مطار دبي وقيل لي إنّني لا أستطيع السفر من دون تأشيرة. قضيت ثلاثة أيام عصيبة موقوفة في المطار، وقد رفض طلب التأشيرة إلى تركيا إذ إنّني لا أملك إقامة في الإمارات كذلك”. تضيف: “اليوم، أعيش هنا بعيداً عن أطفالي. تقدّم زوجي بطلب لمّ شمل، لكنّنا لا نعرف إن كان سوف يوافَق عليه أم لا”.
تجدر الإشارة إلى أنّ المعوّقات التي تطاول سفر السوريين قد تضاعفت بعد فرض السلطات التركية مطلع العام الجاري تأشيرة دخول على حاملي الجنسية السورية، بالإضافة إلى الشروط الصعبة الواجب توفّرها للحصول عليها.
استغلال وسمسرة
في سياق متصل، عمد كثيرون إلى استغلال الوضع والاستفادة من العقبات التي تعترض السوريين الموجودين في تركيا، إذ وجدوا فيها فرصة لكسب المال. يقول محمد الحاج الذي يعيش في مدينة إسطنبول: “تقدّمت بطلب للحصول على بطاقة الحماية المؤقتة، فحدّدوا لي موعداً بعد خمسة أشهر بسبب كثافة أعداد السوريين في المنطقة التي أعيش بها. فلجأت إلى أحد السماسرة الذي استطاع استخراجها لي خلال يوم واحد من منطقة أخرى”. يضيف: “هو يتعامل مع الموظفين الأتراك لتسهيل أمور كل من يأتي من طرفه. صحيح أنّ العملية كانت قانونية كلياً، إلا أنّها لم تكن لتسير بسلاسة لولاه”.
بعد خمس سنوات على اللجوء السوري إلى تركيا، كثرت مكاتب السمسرة في الشؤون القانونية التي يشغل معظمها سوريون. وتستخدم هذه المكاتب وسائل التواصل الاجتماعي للترويج لعملها، وتعرض تقديم خدمات متعددة للسوريين “كاستخراج بطاقة التعريف أو الكملك وتبديل عنوان السكن فيها واستخراج تقارير طبية وتحديد مواعيد قريبة في السفارة السورية وغيرها”.
عاطف لاجئ سوري في ألمانيا، اليوم. يخبر: “كنت أعمل في أحد مكاتب السمسرة قبل التوجّه إلى ألمانيا. لم أكن راضياً عمّا كنت أفعله، لكنّني كنت مضطراً إلى العمل”. ويوضح أنّ “عمل هذه المكاتب لا يحمل صفة رسمية، إلا إنّها بمعظمها مرخّصة على أنها مكاتب تجارية لاستيراد وتصدير السلع وما شابه. وثمّة أخرى تعمل خفية من دون أيّ ترخيص”. يضيف عاطف أنّ “بعض تلك المكاتب يقدّم خدمات تأتي بنتيجة، فيما يقدّم بعض آخر خدمات وهميّة. وتستغل هذه المكاتب الروتين الإداري في المؤسسات التركية وعدم دراية السوريين بها بالإضافة إلى عدم إتقان كثيرين منهم اللغة التركية، الأمر الذي يحول دون تمكّنهم من معرفة كيفية سير الأمور”. ويتابع عاطف أنّ “السوريين بمعظمهم لا يملكون أوراقاً نظامية كاملة. ثمّة من فقد أوراقه بسبب الحرب وثمّة من لا يملك جواز سفر في الأساس أو لم يسجّل دخوله إلى تركيا، وثمّة من لا يملك عقود إيجار نظامية وغيرها. فتتولى تلك المكاتب إنجاز ذلك”. بحسب عاطف، فإنّ “السلطات التركية على علم تام بهذه المكاتب، لكنها تغضّ الطرف عن عملها إلى حدّ ما، إذ تسهّل لها تسوية أمور السوريين الذين لم تسوِّ هي أوضاعهم القانونية”. ويشير إلى أنّ “المكاتب التي تعمل على استخراج إقامات أو جوازات سفر أو هويات، هي غالباً ما تعمد إلى تزويرها. فتلحق عواقب قانونية كبيرة بمن يتعامل معها”.
أرقام رسميّة
وصل عدد اللاجئين السوريين في تركيا حتى بداية نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، إلى مليونين و780 ألفاً، بحسب أرقام المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فيما أشار مسؤولون أتراك إلى أنّ العدد تجاوز ثلاثة ملايين سوري. ويتركّز الوجود السوري في تركيا في محافظات إسطنبول وشانلي أورفا ومرسين وهاتاي وغازي عنتاب وأضنة، فتحتضن كلّ واحدة منها ما يزيد عن 135 ألف لاجئ سوري. ويتوزّع القسم الأكبر من السوريين في المدن، فيما يعيش نحو 270 ألفاً في 22 مخيماً للاجئين تتوزّع على الأراضي التركية القريبة من الحدود السورية التركية.
تجدر الإشارة إلى أنّ عدد اللاجئين السوريين في تركيا مستقرّ منذ شهر مارس/ آذار من العام الجاري. ولم يتجاوز عدد الوافدين السوريين إلى تركيا هذا العام 250 ألف شخص بالمقارنة مع نحو 900 ألف دخلوا العام الماضي. ويعود ذلك إلى قطع طريق الهجرة إلى القارة الأوروبية عبر الشواطئ التركية، وفرض تركيا تأشيرة دخول على حاملي الجنسية السورية، بالإضافة إلى إغلاق معابرها الحدودية.
العربي الجديد