لعل افتقار الساحة السياسية السورية إلى رجال دولة كبار، كان وما يزال من أهم أسباب بؤسنا القائم وتعثر ثورتنا، وما كان يبدو لمعظم السوريين قبل الثورة أنه مخزون هائل من السياسيين والمثقفين الكبار القادرين على التصرف كرجال دولة، والتصدي لاستحقاق التغيير وإدارته ذات يوم، تبيّن، بامتحان الثورة، أنه مجرد وهم، فلا شيء غير الصغار. لا تكفي الثقافة وسعة العلم والمعرفة، حتى يحوز صاحبها لقب “رجل دولة”، كما لا يكفي التاريخ النضالي، وقضاء السنين الطويلة بين السجون والتخفي، كما لا تكفي البراعة السياسية أو الإعلامية، على ما لتلك المواصفات من أهمية، بل تتطلب حيازة لقب كهذا مواصفات شخصية من نوع آخر، أكثر سمواً، هي مزيج من الرجولة والنبل والخبرة وصفاء الذهن وبعد النظر والحكمة، نذكر منها الحساسية العالية للسيادة الوطنية واستقلال القرار الوطني، وتمييز ورفض كل ما يمس بهما، ومنها إعلاء شأن الوطن ومصالحه على المصالح الشخصية والامتيازات الخاصة، ومنها القدرة على التسامح، والترفع عن صغائر الأمور، وتجاوز الخلافات مع شركاء الهم الوطني، وتقديم بعض التنازلات لهم، عندما تتطلب مصلحة الوطن ذلك، ومنها الصدق والشفافية مع الشعب، والقدرة والشجاعة على المصارحة والاعتراف بالأخطاء وإجراء المراجعات وإعادة النظر وتصحيح المسارات في الوقت المناسب.
فإذا ألقينا، بعد هذا السرد، نظرة متأملة على أداء من تصدّر المشهد السياسي في سورية من زعماء المعارضة، على مدى نيف وأربعة أعوام، هي عمر الثورة، وأجرينا بعض المقارنة، نرى أشخاصاً فرّطوا باستقلاليتهم، وبقرارهم الوطني، وارتهنوا للأجنبي، وتحولوا إلى دمى تحركها هذه الدولة أو تلك، فهذا من جماعة قطر، وذاك من جماعة السعودية، والآخر من جماعة تركيا، وأصبحوا يضبطون إيقاعاتهم على نغمات تلك الدول، مع أنني لا أشك أن معظمهم تورط بذلك معتقداً، بحسن نية، أنه يخدم بلاده وشعبه في ظروفٍ بالغة البؤس والقسوة، وتحت ضغوط بالغة الشدة. لكن، من يفرط بقراره الوطني المستقل في لحظة معينة، يفقد حتماً قدرته على الإتيان بتصرفات الكبار في اللحظات المصيرية، فأن تكون وطنياً شيء، وهم غالبا كذلك، وأن تكون قادراً على الحفاظ على قرارك الوطني المستقل شيء آخر، وهنا يكمن الفرق.
ونرى أشخاصاً انهمكوا بمعاركهم الصغيرة مع من يفترض أنهم رفاق دربهم، وشركاؤهم في محاربة الاستبداد، وبناء الدولة الوطنية الحديثة، وأصبحت معاركهم الصغيرة هي القضية، وليس نظام الاستبداد، وليس انتشار التنظيمات التكفيرية العدمية، وليس ملايين السوريين القتلى والجرحى والمعتقلين والمشردين الهائمين على وجوههم، فوجود حسن عبد العظيم بالنسبة لأحدهم هو القضية، وليس وجود بشار الأسد وطغمته، والنصر هو إبعاد حسن عبد العظيم وتحطيمه، ولو تحطمت بالمعية فرص عمل جماعي تمس الحاجة إليه. وفي الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، تُخاض حروب طاحنة أشهراً من أجل إقالة أحمد طعمة وحكومته، ثم تخاض مثلها من أجل إعادته، فهذا يريده بأي ثمن، وذاك يرفضه بأي ثمن، وليس للخلاف علاقة بكفاءة الرجل ودوره المصيري، فلا من يريده مقتنع به، ولا من يرفضه، يفعل ذلك لنقص كفاءته. والقصة لا تعدو كونها تكاسر إرادات بين أصحاب النفوذ في الائتلاف، وربما بين من يقف خلفهم. كذلك تخاض الحروب الطاحنة على حل المجلس العسكري، وعلى إعادته، وهو مجلس لا يمون على عسكري واحد. وينقسم أعضاء الكتلة الديمقراطية، ويستحكم العداء بين أصدقاء الأمس، على خلفية اختيار مرشح رئاسة الائتلاف، مع أن مستوى المرشحَين، آنذاك، يثير الشفقة، وقد ترأس أحدهم ستة أشهر ورأينا ماذا فعل. وهكذا دواليك، وأشك أن أحداً في “الائتلاف” تذكّر نظام الأسد منذ نحو سنتين، أو اهتم بإدارة المناطق المحررة، أو بدعم الجيش الحر أو بتوحيد كلمة المعارضة، أو بتأسيس خطاب إعلامي مؤثر على الداخل والخارج. وكانت إقالة أحمد طعمة، أو إعادته، أهم من سقوط حمص والقلمون بيد النظام، وسقوط الرقة ودير الزور ونصف سورية بيد تنظيم الدولة.
“أشك أن أحداً في “الائتلاف” تذكّر نظام الأسد منذ نحو سنتين، أو اهتم بإدارة المناطق المحررة، أو بدعم الجيش الحر أو بتوحيد كلمة المعارضة، أو بتأسيس خطاب إعلامي مؤثر على الداخل والخارج“
ونرى، من جانب آخر، أن هذا الفشل المطلق منذ اندلاع الثورة، والذي كلف كل هذه الدماء وهذا البؤس والدمار، لم يكن كافياً لإجراء أحدهم أية مراجعة، أو إعادة النظر في أي شيء، أو الاعتراف بأي خطأ، أو التراجع عن أي مسار أو موقف. ولمَ المراجعة، طالما أن أياً منهم ينفرد بفعل الصواب وامتلاك الحقيقة، وأن الخطأ هو دائما من اختصاص الآخرين؟
هذا هو مستوى من تصدروا المشهد السياسي خلال الثورة، وبغض النظر عن الفروق التي قد تكبر أو تصغر بينهم، إلا أن الثابت أن أحداً منهم لا يرقى إلى مستوى الكبار، مستوى رجال الدولة بالمعنى الذي نتحدث عنه.
الآن، أصبح ظاهرا للعيان أننا مقبلون على استحقاق جديد مختلف، فثمة تطورات نوعية كثيرة حدثت، وتحدث منذ مدة قريبة بتواتر ملفت، سواء على صعيد الداخل السوري أو المنطقة، تجعلنا نجزم أنها ستؤدي إلى تغيرات جدية قادمة، وربما بسرعة، على مشهد الصراع وميزان القوى في سورية، نرصد من هذه التطورات عاصفة الحزم، بحجمها ومفاجأتها وأثرها على لجم الجموح الإيراني، وما سيتركه ذلك من أثر على الفعل الإيراني في سورية. وعلى خلفية عاصفة الحزم نرصد، بشكل غير مباشر، تغيراً واضحاً في الموقف الأميركي تجاه الصراع في المنطقة، إذ لا يمكننا تصور مخاطرة سعودية بهذا الحجم من دون موافقة ودعم أميركيين، ونرصد، أيضاً، التقدم في المفاوضات المتعلقة بالملف النووي الإيراني، واتفاق الإطار الموقع، ونتوقع بروتوكولات علنية وسرية ملحقة، نرجح أن تكون طبيعة النفوذ الإيراني في المنطقة جزءا منها، ونرصد التنسيق التركي السعودي القطري للتعامل مع الطموحات الإيرانية بشكل، والملف السوري بشكل خاص. أما على الأرض، فنرصد الانتصارات النوعية اللافتة للمعارضة المسلحة في الشمال والجنوب، وسلاحها النوعي، ونرصد، قبل ذلك، توحدها الذي كان حلماً حتى وقت قريب، ولا نتصور ذلك بدون ضغط ودعم خارجي مختلف هذه المرة، ونرصد السماح لتنظيم الدولة بالتمدد بهذا الشكل المريب، تحت سمع طيران التحالف وطيران النظام وبصرهما.
وأياً كانت التغييرات المقبلة على معادلات الصراع، وفي أي حجم واتجاه كانت، فإن الحاجة تمس إلى وجود جسم سياسي جامع وقادر ومؤهل بالحد الأدنى، ويحظى بقدر كافٍ من الثقة والشرعية، يمكنه من فرض نفسه لاعباً لا يمكن تجاوزه، يستطيع تلقف هذه المتغيرات وتجييرها ما أمكن لمصلحة شعبه ووطنه.
استسلمنا لقدرنا، نحن السوريين، وفهمنا أن زمن الكبار ولّى، وانحصرت أمانينا في أن يكبر معارضونا قليلا، قليلا فقط، كرمى لعيون شعبٍ منهك ووطن أثخنته الجراح.
فإذا ألقينا، بعد هذا السرد، نظرة متأملة على أداء من تصدّر المشهد السياسي في سورية من زعماء المعارضة، على مدى نيف وأربعة أعوام، هي عمر الثورة، وأجرينا بعض المقارنة، نرى أشخاصاً فرّطوا باستقلاليتهم، وبقرارهم الوطني، وارتهنوا للأجنبي، وتحولوا إلى دمى تحركها هذه الدولة أو تلك، فهذا من جماعة قطر، وذاك من جماعة السعودية، والآخر من جماعة تركيا، وأصبحوا يضبطون إيقاعاتهم على نغمات تلك الدول، مع أنني لا أشك أن معظمهم تورط بذلك معتقداً، بحسن نية، أنه يخدم بلاده وشعبه في ظروفٍ بالغة البؤس والقسوة، وتحت ضغوط بالغة الشدة. لكن، من يفرط بقراره الوطني المستقل في لحظة معينة، يفقد حتماً قدرته على الإتيان بتصرفات الكبار في اللحظات المصيرية، فأن تكون وطنياً شيء، وهم غالبا كذلك، وأن تكون قادراً على الحفاظ على قرارك الوطني المستقل شيء آخر، وهنا يكمن الفرق.
ونرى أشخاصاً انهمكوا بمعاركهم الصغيرة مع من يفترض أنهم رفاق دربهم، وشركاؤهم في محاربة الاستبداد، وبناء الدولة الوطنية الحديثة، وأصبحت معاركهم الصغيرة هي القضية، وليس نظام الاستبداد، وليس انتشار التنظيمات التكفيرية العدمية، وليس ملايين السوريين القتلى والجرحى والمعتقلين والمشردين الهائمين على وجوههم، فوجود حسن عبد العظيم بالنسبة لأحدهم هو القضية، وليس وجود بشار الأسد وطغمته، والنصر هو إبعاد حسن عبد العظيم وتحطيمه، ولو تحطمت بالمعية فرص عمل جماعي تمس الحاجة إليه. وفي الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، تُخاض حروب طاحنة أشهراً من أجل إقالة أحمد طعمة وحكومته، ثم تخاض مثلها من أجل إعادته، فهذا يريده بأي ثمن، وذاك يرفضه بأي ثمن، وليس للخلاف علاقة بكفاءة الرجل ودوره المصيري، فلا من يريده مقتنع به، ولا من يرفضه، يفعل ذلك لنقص كفاءته. والقصة لا تعدو كونها تكاسر إرادات بين أصحاب النفوذ في الائتلاف، وربما بين من يقف خلفهم. كذلك تخاض الحروب الطاحنة على حل المجلس العسكري، وعلى إعادته، وهو مجلس لا يمون على عسكري واحد. وينقسم أعضاء الكتلة الديمقراطية، ويستحكم العداء بين أصدقاء الأمس، على خلفية اختيار مرشح رئاسة الائتلاف، مع أن مستوى المرشحَين، آنذاك، يثير الشفقة، وقد ترأس أحدهم ستة أشهر ورأينا ماذا فعل. وهكذا دواليك، وأشك أن أحداً في “الائتلاف” تذكّر نظام الأسد منذ نحو سنتين، أو اهتم بإدارة المناطق المحررة، أو بدعم الجيش الحر أو بتوحيد كلمة المعارضة، أو بتأسيس خطاب إعلامي مؤثر على الداخل والخارج. وكانت إقالة أحمد طعمة، أو إعادته، أهم من سقوط حمص والقلمون بيد النظام، وسقوط الرقة ودير الزور ونصف سورية بيد تنظيم الدولة.
“أشك أن أحداً في “الائتلاف” تذكّر نظام الأسد منذ نحو سنتين، أو اهتم بإدارة المناطق المحررة، أو بدعم الجيش الحر أو بتوحيد كلمة المعارضة، أو بتأسيس خطاب إعلامي مؤثر على الداخل والخارج“
ونرى، من جانب آخر، أن هذا الفشل المطلق منذ اندلاع الثورة، والذي كلف كل هذه الدماء وهذا البؤس والدمار، لم يكن كافياً لإجراء أحدهم أية مراجعة، أو إعادة النظر في أي شيء، أو الاعتراف بأي خطأ، أو التراجع عن أي مسار أو موقف. ولمَ المراجعة، طالما أن أياً منهم ينفرد بفعل الصواب وامتلاك الحقيقة، وأن الخطأ هو دائما من اختصاص الآخرين؟
هذا هو مستوى من تصدروا المشهد السياسي خلال الثورة، وبغض النظر عن الفروق التي قد تكبر أو تصغر بينهم، إلا أن الثابت أن أحداً منهم لا يرقى إلى مستوى الكبار، مستوى رجال الدولة بالمعنى الذي نتحدث عنه.
الآن، أصبح ظاهرا للعيان أننا مقبلون على استحقاق جديد مختلف، فثمة تطورات نوعية كثيرة حدثت، وتحدث منذ مدة قريبة بتواتر ملفت، سواء على صعيد الداخل السوري أو المنطقة، تجعلنا نجزم أنها ستؤدي إلى تغيرات جدية قادمة، وربما بسرعة، على مشهد الصراع وميزان القوى في سورية، نرصد من هذه التطورات عاصفة الحزم، بحجمها ومفاجأتها وأثرها على لجم الجموح الإيراني، وما سيتركه ذلك من أثر على الفعل الإيراني في سورية. وعلى خلفية عاصفة الحزم نرصد، بشكل غير مباشر، تغيراً واضحاً في الموقف الأميركي تجاه الصراع في المنطقة، إذ لا يمكننا تصور مخاطرة سعودية بهذا الحجم من دون موافقة ودعم أميركيين، ونرصد، أيضاً، التقدم في المفاوضات المتعلقة بالملف النووي الإيراني، واتفاق الإطار الموقع، ونتوقع بروتوكولات علنية وسرية ملحقة، نرجح أن تكون طبيعة النفوذ الإيراني في المنطقة جزءا منها، ونرصد التنسيق التركي السعودي القطري للتعامل مع الطموحات الإيرانية بشكل، والملف السوري بشكل خاص. أما على الأرض، فنرصد الانتصارات النوعية اللافتة للمعارضة المسلحة في الشمال والجنوب، وسلاحها النوعي، ونرصد، قبل ذلك، توحدها الذي كان حلماً حتى وقت قريب، ولا نتصور ذلك بدون ضغط ودعم خارجي مختلف هذه المرة، ونرصد السماح لتنظيم الدولة بالتمدد بهذا الشكل المريب، تحت سمع طيران التحالف وطيران النظام وبصرهما.
وأياً كانت التغييرات المقبلة على معادلات الصراع، وفي أي حجم واتجاه كانت، فإن الحاجة تمس إلى وجود جسم سياسي جامع وقادر ومؤهل بالحد الأدنى، ويحظى بقدر كافٍ من الثقة والشرعية، يمكنه من فرض نفسه لاعباً لا يمكن تجاوزه، يستطيع تلقف هذه المتغيرات وتجييرها ما أمكن لمصلحة شعبه ووطنه.
استسلمنا لقدرنا، نحن السوريين، وفهمنا أن زمن الكبار ولّى، وانحصرت أمانينا في أن يكبر معارضونا قليلا، قليلا فقط، كرمى لعيون شعبٍ منهك ووطن أثخنته الجراح.
نادر جبلي – العربي الجديد