يتجه المفاوضون السوريون إلى جنيف، لعقد جولة جديدة من محادثاتٍ ستدخل في “المسألة الجوهرية”، الانتقال السياسي. وفي حين يستعد هؤلاء المفاوضون للمناقشة حول المرحلة الانتقالية، شروطها ومواقيتها، فإن فهم الإطار الذي تتم فيه العملية التفاوضية قد يساهم في التنبؤ بنتائجها.
سجلت أول مظاهرة خرجت في دمشق بداية النهاية لسورية، التي بناها حافظ الأسد. وطوال السنوات الماضية، قاوم بشار الأسد، وحاول إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، فما استطاع. استعان بالإيرانيين، علهم يستطيعون. تمكنوا فترة قصيرة. اتضح أن طهران عازمة على تجاوز سورية الأسد، وإطلاق سوريتها الخاصة، “المحافظة الإيرانية الخامسة والثلاثين”، لكنها فشلت، فجاء الروس.
وبعد الضغط الشديد والمكثف الذي مارسته القوات الروسية في شهري ديسمبر ويناير/ كانون الأول وكانون الثاني الماضيين، على الثوار، اضطرت المعارضة السورية ممثلةً بـ “الهيئة العليا للمفاوضات” إلى الجولة الأولى من محادثات جنيف، من دون أية ضمانات حقيقية لمناقشة العملية الانتقالية. في المقابل، ومع نشوة النظام بإنجازاته العسكرية، وشعوره بإمكانية دحر الثوار، تحت الغطاء الاستراتيجي الروسي، عاد لا يعترف بأن ما يجري في سورية أزمة داخلية، بل بات أكثر إصراراً على تصويرها حرباً خارجية، تدار من العواصم الإقليمية والغربية بأدواتٍ “إرهابية” على الأرض السورية. لم ترضَ موسكو عن هذه القراءة. سارع الروس إلى فرض الهدنة على النظام. ولاحقاً، سحبوا الجزء الأساسي من قواتهم في سورية.
فهم وفد النظام الموجود في جنيف، حينها، أن الجولة الثانية من المحادثات (انعقدت في الثلث الأخير من شهر مارس/ آذار الماضي)، ستكون جدية. برز ذلك من، إضافة إلى بدء الانسحاب الروسي الجزئي، الأجواء في عاصمة المنظمات الدولية، ازدياد مستوى التنسيق الروسي الأميركي، وارتقاء مستوى الاتصال مع الوفد من وزارة الخارجية إلى القصر الجمهوري. مع ذلك، كان الوفد بحاجة ماسة إلى التعليمات المناسبة. وما كان في وسع رئيسه، بشار الجعفري، إلا المماطلة.
الآن، وبعد توافق الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ووزير الخارجية الأميركي، جون كيري،
أصبحت مناقشة المرحلة الانتقالية في مفاوضات جنيف على الأبواب. لكن الانتقال من ماذا إلى ماذا؟ بحسب بشار الأسد، يكون الانتقال من دستور إلى دستور، ومن حكومة إلى حكومة. أما المعارضة فتريده انتقالاً من الاستبداد والديكتاتورية إلى الديمقراطية. وبغض النظر عن مواقف الطرفين، بات مؤكداً أن سورية ستشهد عملية انتقالية حقيقية للغاية، لكنها مختلفة عما يتوقعه كلا الجانبين، أو يريده. فانزلاق سورية، والتي ضعفت، إلى حد بعيد، بعد الحرب التي شهدتها خمس سنوات، إلى دائرة النفوذ الروسي لن يكتمل، من دون أن تشهد هذه الدولة تغييراً يتناسب مع الوضع الجديد. وبالفعل، ظهرت بعض معالم التغيير. بات في سورية اليوم مركزا قوة: القصر الجمهوري (بشار الأسد)، والقاعدة الجوية الروسية في قرية حميميم في محافظة اللاذقية. تحولت حميميم إلى ما يشبه قرية عنجر اللبنانية، التي ركز فيها ضباط المخابرات السوريون مقرّهم خلال عهد الوصاية السورية على لبنان.
نظم الوجود السوري في لبنان بموجب اتفاق الطائف ومعاهدة الأخوة السورية اللبنانية. نظَّر حافظ الأسد لوجود سورية العسكري في لبنان، بمصطلحين سكّهما بنفسه، “العلاقات المميزة” و”وحدة المسار والمصير”. أيضاً، ستنظم العلاقات الروسية السورية المستقبلية المعاهدة التي وقعها بشار الأسد مع الروس، قبل إطلاق عمليتهم الحربية في سورية. وإلى المعاهدة التي سيشترط على أي حكم سوري جديد المصادقة عليها، هناك شيء ما فتئ يتبلور في روسيا، هو العلاقة الخاصة بين روسيا وسورية والمصير المشترك!
بعد إقرار اتفاق الطائف، نسج ضباط المخابرات السوريون من عنجر، المنبسطة في وادي البقاع اللبناني، خيوطاً تحكّموا من خلالها باللعبة اللبنانية. واليوم، يعمل الضباط الروس (العسكريون حتى الآن) من حميميم على مد نفوذهم في مختلف المناطق السورية، سواء الواقعة تحت سيطرة المعارضة أو تنظيم الدولة الإسلامية، أو حتى النظام. يعقدون المصالحات والهدن. يركّزون بشكل كبير على إعادة هيكلة الجيش والأجهزة الأمنية، وإرساء آلية للتعاون العسكري المستقبلي مع الثوار. لكنهم لا يكتفون. يستقبلون شخصياتٍ سياسية، شيوخ عشائر، ضباط النظام، أعيان الطوائف والمذاهب. كما يعملون على استمزاج الآراء بشأن الشكل المناسب للدولة السورية، ونظامها السياسي المقبل.
بشكل أو بآخر، ينفذ هؤلاء الضباط مهام أجهزة المخابرات السورية؛ فمنذ أيام المكتب الثاني (جهاز أمني شهير ترأسه قبل الوحدة المصرية السورية أسطورة المخابرات السورية، عبد الحميد السراج) أدار ضباط المخابرات المجتمع السوري. من الطبيعي، أن علاقات تنسيق قوية ستنشأ بين الضباط الروس ونظرائهم السوريين، على غرار التي سبق ونشأت إبّان الوجود السوري في لبنان، بين أجهزة المخابرات السورية والأجهزة الأمنية اللبنانية. تلك العلاقات الراسخة دفعت المعارضة اللبنانية إلى الحديث عن وحدة تلك الأجهزة، وصك مصطلح جديد لوصفها “الجهاز الأمني اللبناني السوري المشترك”.
لن يكون لأي مسؤول سوري، مهما علا منصبه، سيطرة تذكر على الأجهزة الأمنية التي ستخضع لاعتبارات التنسيق المشترك مع قاعدة حميميم.
الجيش “المتعب والمنهك” سيكون أيضاً خاضعاً لتوجهات المستشارين الروس الذين أزاحوا، أخيراً، نظراءهم الإيرانيين. يعتزم الروس جمع سلاح المليشيات المسلحة، بما في ذلك المؤيدة للنظام، وحصر السلاح في سورية بالجيش المعاد بناؤه وهيكلته. العلاقات الدولية للدولة السورية ستحدد في الكرملين، وكذلك توجهاتها الخارجية وسياساتها الإقليمية.
وفي هذا المجال، عقد فلاديمير بوتين سلسلة من الاتفاقات المتعلقة بسورية، منذ قرّر التدخل العسكري لصالح النظام، كاتفاق عدم التصادم أو إنشاء خط ساخن بين قاعدة حميميم وقيادة القوات الجوية الروسية، ولا يبدو أن الرئيس الروسي بصدد التوقف في المستقبل.
وإذا كانت شؤون الأمن والدفاع والسياسة الخارجية لسورية ستقرّر في الكرملين، فما هو شكل الانتقال الذي ستشهده البلاد، وسيتم التفاوض عليه راهناً في جنيف؟ بحسب الروس، إنه الانتقال من النظام الديكتاتوري إلى النظام الديمقراطي الطوائفي المضبوط روسياً. تشهد على ذلك بنود اتفاق فيينا التي تؤكد على “الطابع اللاطائفي” للدولة والحكم المقبل.
لكن، مع التشديد على الحصة الوازنة للأقليات في الدولة، الجيش والأمن! نظام برأسين، مع تأكيدٍ على دور البرلمان والحكومة وتقليص صلاحيات الرئيس. وبغض النظر عن التلويح الروسي بورقة الفيدرالية، للضغط على أنقرة، فإن موسكو تؤيد حكماً فضفاضاً ولا مركزياً في سورية، ربما كان شبيهاً بما كان عليه في فترة الحكم الوطني (1946 – 1958). على الأرجح، سيتوصل المفاوضون السوريين إلى نتيجةٍ قريبةٍ من هذا الحكم بالذات.
يوحي النظام المقبل بأن بشار الأسد لم ينجح في دفع كأس التغيير عن نفسه. رفض أي شكل من التنازل عن صلاحياته، أو المساس بهيمنته المطلقة على الجيش، والأجهزة الأمنية، والحكومة، بل ومجمل الحياة السياسية والاقتصادية في البلاد. في المقابل، لا يشير هذا النظام إلى انتصار الثورة وقيمها؛ فالسوريون الذين ثاروا ضد تسلط الأجهزة الأمنية (المخابرات) وجبروتها سيجدون أنها ستبقى قائمة. عزاؤهم الوحيد أنها قد تتوارى قليلاً عن الأنظار، من دون أن يختفي تدخلها السابق بشؤونهم. أما الجيش ومؤسسات الدولة عامةً فإنها جميعاً ستبقى مكاناً للتمييز الطائفي، جرّاء إصرار روسيا على حقوق الأقليات.
مع ذلك، رؤية موسكو ضرورة إنشاء حلف بين الجيش النظامي والثوار لقتال داعش، وعزمها هيكلة الجيش، يوحيان بوجود رغبة روسية في تصحيح الحالة غير السليمة لجيشٍ بناه النظام مؤسسة “عقائدية”، مهمتها الأساسية حماية الرئيس، إلى جيش يتمتع بشيء من التأييد الوطني.
ووفق المعطيات الراهنة، لا يبدو أن الروس موافقون على محاسبة مسؤولي النظام عن الجرائم، التي ارتكبوها بحق المدنيين السوريين في السنوات الخمس الماضية.
تشي هذه التحولات التي ستحدث في العامين المقبلين بأن البلاد مقبلة على عملية انتقالٍ لا رجعة عنها، وبأن “سورية الأسد” زالت من الوجود، لتحلّ مكانها “سورية بوتين”.
العربي الجديد – أنيس الوهيبي