مرّ زمن، قد يراه الكرملين اليوم بمثابة وقت روسي مستقطع، أو حتى ضائع مبدد؛ لم تستخدم فيه موسكو حقّ النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي، ضدّ مشاريع أمريكية أقرب إلى المنعطفات الكبرى في العلاقة بين وريثَيْ نظام الحرب الباردة: بصدد أفغانستان، ثمّ العراق، وليبيا ثالثاً. وإذْ أدرك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لاحقاً، حجم الخسارات في هذه الملفات من زوايا اقتصادية واستثمارية ألغت، عملياً، اقتطاع حصة روسية من الكعكات الثلاث؛ فقد توجّب قلب السياسات الروسية، رأساً على عقب أحياناً، ابتداءً من أوكرانيا، وانتقالاً بعدئذ إلى سوريا.
كانت التفصيلات التي اكتنفت خطوة الكرملين، في مثل هذه الأيام قبل خمس سنوات، كثيرة ومتعددة العناوين ومتشابكة الأغراض؛ تتجاوز حال النظام السوري، الذي كان آيلاً إلى السقوط باعتراف وزير الخارجية سيرغي لافروف ذاته، إلى أحوال إيران المنخرطة لتوّها في عمليات إنقاذ بشار الأسد عبر ضباط “الحرس الثوري” ومقاتلي “حزب الله” والفصائل الشيعية المختلفة؛ وإلى حال دولة الاحتلال الإسرائيلي، التي كانت تسرح وتمرح في سماء سوريا وتقصف متى وحيثما شاءت، ويعنيها ألا يعكّر صفو عملياتها تحويل مطار حميميم إلى قاعدة جوية روسية خالصة.
وهكذا، بدا العنصر الأوّل اللافت هو مسارعة رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو إلى زيارة موسكو، للاتفاق على تشكيل لجان أمنية روسية – إسرائيلية مشتركة تتكفل بتفادي أي “سوء فهم” محتمل في الأجواء السورية، بين القاذفات الإسرائيلية والرادارات الروسية. العنصر الثاني كان موقف الإدارة الأمريكية، غير الغاضب أبداً حتى على مستوى التسخين اللفظي والدبلوماسي، فاقتصر الردّ على اتصال هاتفي من وزير الخارجية جون كيري مع نظيره الروسي لافروف، واتصال ثانٍ من وزير الدفاع أشتون كارتر مع نظيره الروسي سيرغي شويغو.
ولم يأتِ التسخين الأوّل الفعلي إلا من سلاح الجوّ التركي الذي أسقط طائرة روسية من طراز سوخوي – 24، بعد أسابيع قليلة أعقبت التمركز الروسي في حميميم؛ وكانت تلك الواقعة، للمفارقة الصارخة، هي البوّابة التي سرعان ما حوّلت الخصومة بين موسكو وأنقرة إلى علاقة تعاون وتواطؤ وتقاسم بصدد الملفّ السوري إجمالاً، عبر تفاهمات سوشي وأستانة وسواهما. وفي قلب هذه الشبكة كانت التناقضات الظاهرية تخفي الكثير من التقاطعات الخافية، بين إيران وتركيا وروسيا، كلٌّ من خلال مصالحه في سوريا، من جهة؛ وبين إيران ودولة الاحتلال، واستمرار سلاح الجوّ الإسرائيلي في العربدة من دون رادع إيراني، من جهة ثانية؛ وبين واشنطن وموسكو من جهة ثالثة، حول ملفات متداخلة لا تبدأ من النفط ولا تنتهي عند أوضاع الكرد وترتيبات شرق الفرات.
وحين وقع ما كانت تتخوف منه موسكو وتل أبيب، أي سقوط طائرة روسية في سماء الساحل السوري أثناء غارة إسرائيلية بعد ثلاث سنوات من حُسْن سير التنسيق بين وزارة الدفاع الروسية وجيش الاحتلال؛ اتضح سريعاً أنّ الحادثة لن تؤثر على المسار المعتمد، الذي تمّ ضبطه وترسخ أكثر بدل أن يهتز أو يتراجع. وكان ذلك المؤشر إضافة حاسمة إلى حصيلة المقاربة الجيو – سياسية الروسية في سوريا، لجهة التراضي بين الأطراف الخارجية الفاعلة على الأرض كافة، بحيث بدا أنّ المتاعب الصغيرة التي تنشب بين حين وآخر لا تبدّل الجوهر ولا تمسّ معادلاته.
.. ما خلا، بالطبع، أنّ المشروع الروسي في سوريا لم يتكئ فقط على عرض العضلات، أو استئناف نسق جديد من الحرب الباردة مع واشنطن، أو تحويل سوريا إلى حقل تجارب حول الأسلحة الروسية المستحدثة؛ بل لعلّ حافزه الأكبر كان الوعد بقطاف اقتصادي واستثماري واسع النطاق، وفي ملفّ “إعادة الإعمار” على نحو خاصّ. هنا عقدة مستعصية مستحكمة لا يلوح أنّ الوفود الروسية الرفيعة إلى دمشق أفلحت، أو سوف تفلح، في تفكيكها؛ حتى بعد توقيع عشرات من الاتفاقيات والبروتوكولات مع كبار حكماء الكرملين.
نقلا عن القدس العربي