العنوانُ كاملاً مؤلَّفٌ من كلمة واحدة لا غير، وعلى شكلٍ يبدو بلا تأليف في شيء، والديوان كلّه قصيدة واحدة هي “سوريا” مرفوعة بالألف آخرها، الألف التي لا يمكن تحريكها إلا إذا أعيدت صياغة صورة البلد كما لم يكن أبداً.
فوحدهم الصادقون، وحدهم مرضى الأملِ المغدور، المُحِبّون، الغاضبون، مقيمين في شقاء الوعي، مفجوعين بما لا يمكن تحمُّله، ولا السكوتُ عنه، يمكن أن يهذوا، ويجعلوا من الهذيان أبلغ تعبير عن الحقيقة، إذا ما كانت الأخيرة دعامةَ الشِّعر وحجّة كتابته، نَفَساً بعد نَفَس وجرحاً تلو جرح.
أخيراً، كافأت اللغة “السورية” أسبابَ حاجتها إلى التعبير عن كيانٍ بلا أي سندٍ خارجه، وعَضّت النقمة الغاضبة على نحيبها الخافت، وجاء الصوت الفردي، هو صوت المسحوقين، محلَّ الجمع المقصوف، فتساوت “الثورة المستحيلة” هائمة وفاتنة، مثلما غنّت أوّلَ بزوغها الشريف، بقصيدة مستحيلة، حالُها حالُ يتيمٍ يلوذُ بيتيمٍ آخر.
وكما لو أنّ سليم بركات يمهّد، ومن خلال هذا التمهيد المباشر الوجيز يسوِّغُ لما سيلي الجملة الأولى من ديوانه الجديد “سوريا” (152 صفحة، دار المدى)، ويشي بأن القادم سيكون بلا ربطٍ ولا إتقان كالذي عهده قرّاءُ شعره، من خلال بدء القصيدة بنفي يتضمن أمراً مقلوباً على سؤال مرفوض أساساً: “لا تسألوني الضَّبْطَ مُتقَناً كالرَّبْط مُتقَناً بعد الآن. الأعالي مُخبَّلةٌ مزَّقتْ صُدْرَتها، والأسافلُ مُخَبَّلة كالأنحاءِ الخَبَلِ لا تُرتَجى بعد الآن. ركبتاي خارتا والسماءُ خارت”.
”
لا شيء مُحْكَماً بعد الآن ولا أنيقاً سوى الرثاء والرفض
”
مستنداً إلى نداءٍ في مقام نشيدٍ كلُّه عَصَبٌ ولوعةٌ، وبعبارة واحدة مفردة، وجامعة ما تمزّق في قبضةٍ تتسع وتنقبض كي تضمّ ما لا يُضمّ إلا داخل جرح الابتهال أو في أثناء صلاةٍ أو خلف جنازة، تبدأ وتدور وتنتهي بـ “أيّها البلدُ”، هي هي ذاتها العبارة التي تُستعاد مراراً في ختام كلّ مقطع من مقاطع “سوريا”، الذي يرثي فيه وقائع الزلزال السوري رثاءً يمزج التراب بالهواء، والخزي بالبطولة، والنشوة بالشتيمة. لا يقابل الشعريَّ هنا واليوم ما كان يقابله أمس. انتهى الأمس، وانتهت معه الأبدية، ومعهما ذوت أضواؤه التي لم تكن أضواءً.
هكذا، داخل نفق معتم، تجتمع النقائض السورية كتفاً إلى كتف وفماً شقيقاً يطبق نار خسارته على فمٍ شقيقٍ، ركاماً فوق ركامٍ، يعيد الشاعرُ بناءه رفعاً من بين الأنقاض المختلطة بالجثث، بعدما تحوّل الركام إلى بيتِ الشاعر، كما هو بيت السوري طريداً من العالم، كلِّ العالم.
وحيث لا يقينَ بعد الآن إزاء أيّ شيء قطّ، لا الهويّة الوطنية المهلهلة ولا التاريخ عقماً وكذباً نابحَيْن ولا أي رابط ديني أو قومي آخر، عقبَ تلويث الحقّ بالضغينة والأخوة بالانتقام والحرية بأجور بخسة وغزاة “مقاومين” مأجورين، والأسى بوعودٍ مزيفة والعدالة بالعطالة الخائنة طلّابَها.
وبعد دوّامات سوريةٍ طويلة ودامية دوامَ الفجيعة تتناسل يوماً بعد يوم، تنمو عمارة بركات الجديدة من جذرٍ واحدٍ ودامغ؛ الصرخة حدَّ لهاثٍ يقطع الأنفاس، فهو ذا ينصحُ إذ يصرخ يائساً ومختصراً كلّ ممكنٍ بمستحيل واحدٍ فريدٍ: “غادرِ البلدَ، أيّها البلدُ”.
لم يعد الخياليّ كافياً كي يلوذ به شاعر اللغة – الكيان المرصوص طرداً لواقع غدا لصيقاً كالأنفاس المبتورة وقريباً قربَ طاحونة القتل؛ إذ أردى الواقعيُّ رفعة الخيال المحايد وسوّى الأرض بالأرض.
لهذا ربّما يلتمس سليم بركات من المادة الحسّية المخلعة والمقتعلة اقتلاعَ الحناجر، قدراتِها الخامّ والنازفة كي تفسّر ما يعجز عنه التفسير الخارجي الدارج، ولا تمسك بنبضه لغة الحدث اليومي العائمة تقريراً هنا وإحصاءً هناك، وما تقف إزاءه اللغة “القديمة” عاجزة في وجه فداحة الهول الذي لا يغطيه أي رقم أو تشفيه صلاحية أية وثيقة هي نوع آخر من التخلي والنذالة.
فحينما يكون كل شيء ضدّ كل شيء، ولا ينفع الرمزيّ المتعالي كي يخرج الواقع على مقاسه المترف، تتخطى القصيدة باب التعبير العادي والمعقول معتمدة على إعادة سبك العادي عينه، لا سواه، في جمل ترجّ كلّ عادة سائدة، كي يستعيد العقل الشعري ما بقي من ضوء حوله، كما لو أن الشعر هنا يأخذ من العمى المحيط به من كل صوب ما يلجئه ويقيه حتى يبقى شعراً يعقل الواقع من فمه ويديه بعد ما طوَّحه اللامعقول ونشر عفنه.
لا شيء مُحْكَماً بعد الآن ولا أنيقاً سوى الرثاء، سوى الرفض، سوى قلبِ العبارة على نفسها وكسرها وتشتيتها من كل صوب، على الضدّ من بديهيتها التي غدت من كثرة استخدامها بلا معنى.
فالنافذةُ – الهدمُ التي يطل منها بركات على “سوريا” هي ذاتها حال البلد الذي لم يكن سوى “كفرٍ” ببلدٍ لم يكن بلداً! فالحال السورية، ها هنا، هي الإقامة في مكان هو الحبس عينه، ولذلك تبدو الحركة داخل هذا الحبس، كما هي داخل القصيدة، أشبه بالإقامة في كل ما هو مخنوق ومؤجل ومهمل ومتوارٍ وخائف وجامد وصارخ ومريض.
وما تقليب العبارة على نفسها وتمويجها وغربلتها كي تصحو من إعيائها وتنهض من خمول إغمائها، وفي أكثر من نحوٍ، حدّ التشويش ومساواة الضدّ بالضدّ، وجعل الصفة اسماً والاسم صفة، سوى حيلة بلاغية هذيانية آسرة لتدارك ما يهرب من التعبير عن نفسه واضحاً وضوح القتل وشيوع الدمار.
إذ ماذا يمكن أن يلي الليلَ، ليل العبارة وليل اللغة، إذا كانت عيوننا وحواسنا مشدودة كلها إلى عبارة من قبيل: “لحافٌ كلُّه هَلَعٌ، والوسادة ناقمةٌ على الحلم ثقيلاً كحقدِ الحلمِ على ما فيه، أيّها البلدُ..” أو “الصبرُ بلا أسنان، بلا يدين”!
العربي الجديد – علي جازو