في تاريخ 15-3 2015 صدحت حناجر المتظاهرين السوريين وسط سوق الحميدية في قلب دمشق, حيث تجمهر نخبة من المثقفين السوريين ونادوا بصوت واحد “نريد الحرية”, لا يبدو التاريخ بعيداً, فمازال ذلك المشهد الشجاع حاضراً في أذهان رواد الحرية, حيث اللحظة الفارقة التي انكسر فيها جدار الصمت وتأججت بها نار الثورة بعد طول انتظار الجمر تحت الرماد, منذ ذلك الحين تغير الكثير وتبدل المشهد لتدخل سورية في مرحلة جديدة رسمت بدماء وأشلاء الشهداء.
للشرارة تداعيات هذا ما كان يراقبه العالم بأسره, فالمكان الجديد هو ليس كغيره من الامكنة, فهي سورية قلب الشرق الاوسط, بل هي قلب العالم, ومن يقرأ التاريخ ويعلم مدى الصراع الكبير الذي شهدته هذه المنطقة بين نفوذ الإمبراطوريات العظمى سيدرك لماذا كان على الثورة السورية أن تحرق نفسها, فالبابليون والكلدان والروم والبيزنطيين واليونانيين والمصريين الفراعنة والفرس والفرنجة والمغول مروا من هنا, وحكموا هذه البلاد لعقود طويلة متفاوتة, وطويت هذه الحقب في صفحات التاريخ وبقيت سورية لأهلها كي يكتبوا تاريخهم بأنفسهم, من يتعمق في هذه الاحداث المتتالية والمتعاقبة سيعلم علم اليقين أن التاريخ يعيد نفسه, فهذا قدر من اختارهم الله للعيش في هذه الأرض المباركة, قدر صعب وعظيم “قدر مقارعة الاستبداد”
واليوم يتكرر المشهد, أرض سورية تكافح الاستبداد, ولكن شعبها يخوض حرب الوكالة ضد هذه الإمبراطوريات مع فارق بسيط وليس جوهري, وهو تغير الأسماء وبقاء الأطماع..
بالعودة من دهاليز التاريخ القديم إلى دهاليز التاريخ القريب, لم يكن الشعب السوري قاصر النظرة, ولم يكن ضعيف الإدراك, ولم يكن بعيداً عن توقع الاحداث والعواقب, فسورية اليوم هي ورقة تمسكها العديد من الأيادي, وتتشابك في قلبها العديد من الملفات على هيئة مشاريع دول, لذلك أدرك الشعب السوري منذ البداية أن ثورته ليست ضد نظام الفاشية والاستبداد فحسب, بل هي ثورة ستقلب المظالم التي يسوّقها النظام العالمي العميق, ومن هنا علم الشعب مقدار التضحيات, وحجم الضريبة من الدم والأشلاء المترتبة عليه جراء الثورة.
بالأمس القريب انتفضت درعا بعد أن اعتقل عناصر الأمن السياسي أطفالهم, كعقوبة رادعة لكتابات على الجدران تنادي بالحرية المفقودة, ولأن الدماء تغلي في العروق, تداعت كل المدن والقرى والبلدات السورية وانتفضت مؤازرة لدرعا وأهل درعا وأطفال درعا, وهنا بدأت الفاتورة الحقيقية تدفع دماً وتضحيات بالتدريج, فلم يكتف النظام بقنص وقتل المتظاهرين السلميين, وملاحقة النشطاء, بل كان لعسكره وترسانته الكبيرة الكلمة التي لم تسمع خارج الحدود, فصب نار غضبه على أبناء الشعب في الداخل, وسالت أنهار الدماء حتى أغرقت “عورة” المتقاعسين والصامتين والمتربصين على مذبح الحرية.
لم يتوقع نظام الاستبداد مقدار الصمود الأسطوري الذي أبداه أبناء البلد الجريح, فهددوه في عقر داره أكثر من مرة, ولأن النظام الدولي العميق يدرك مقدار ما قدم له من خدمات, آثر الصمت على ألسنة فريق, ومشاركة الجريمة على يد فريق آخر, ورغم كل ما لاقاه الشعب السوري من ويلات عظام جراء عمليات القتل والتهجير القسري والتدمير الممنهج, مازال مستمراً في ثورته حتى اليوم, ولسان حاله يقول:
“لن تنطفئ شمعة الثورة التي تحرق نفسها, حتى ننال حريتنا..”
المركز الصحفي السوري-حازم الحلبي