ستراتفور – التقرير
تعتبر أوروبا اليوم قارة حدود. وتحتوي ثاني أصغر قارة في العالم على أكثر من 50 دولة مستقلة ذات سيادة. وكثير من هذه الدول هي جزء من الاتحاد الأوروبي، وينطوي عمق مشروع الاتحاد الأوروبي على السعي نحو تقليل قوة وأهمية هذه الحدود دون إلغائها بالفعل. ومن الناحية النظرية، يمكن تحقيق هذا الهدف. ولكن التاريخ ليس نوعا من أنواع الحلول النظرية.
وتواجه أوروبا اليوم ثلاث أزمات متقاربة، وهي في نهاية المطاف متعلقة بموضوع الحدود الوطنية. فماذا تعني هذه الحدود ومن الذي يسيطر عليها. وتتمثل هذه الأزمات المختلفة في: الهجرة من العالم الإسلامي، المأزق الاقتصادي لليونان، والصراع القائم في أوكرانيا والذي يبدو أن لديه ما يمكن أن يقدمه في هذا الأمر. ولكن في حقيقة الأمر، فإن كل هذه الأزمات مشتقة، بطريقة أو بأخرى، من مسألة ما الذي تعنيه الحدود بالنسبة لأوروبا.
كانت حدود أوروبا تعتبر الأساس لكل من مجموعة المعايير الأخلاقية السياسية، وكوارثها التاريخية. وقد ناضل عصر التنوير في أوروبا ضد الملكيات المتعددة الجنسيات، ومن أجل قيام الدول القومية ذات السيادة، والتي تم فهمها على أنها مجموعة الأراضي التي تقوم عليها الدول. وقد تم تعريف الدول بأنها تجمعات من البشر الذين يتشاركون تاريخًا، ولغة، ومجموعة من القيم، والدين المشترك، وباختصار، يتشاركون ثقافة مشتركة خرجوا من رحمها. وكانت هذه التجمعات تمتلك حق تقرير مصيرها الوطني، وسلطة تحديد نظامهم في الحكم والشعب الذي سيتم حكمه. وفوق كل هذا، عاشت هذه الأمم في مكان ما، وكان لهذا المكان حدوده الواضحة.
وقد خلق حق تقرير المصير الوطني العديد من الدول المختلفة في أوروبا. وأحيانًا ،كما يحدث بين الدول، أدت حالة من عدم الثقة والخوف من الآخر إلى الحروب. كما أن لديهم ذكريات من الخيانة والاحتيال التي ترجع لقرون مضت قبل أن تصبح هذه الأمم دولًا. والبعض ينظر إلى الحدود على أنها جائرة، لإنها وضعت مواطنيهم تحت سطوة الحكم الأجنبي، أو لأنها لا تكفي للحاجة القومية. وقد أدى حق تقرير المصير بشكل حتمي إلى إنشاء الحدود، وأدت مسألة إنشاء الحدود بشكل حتمي إلى نزاعات بين الدول. وبين عامي 1914 و 1945، شنّ الأوروبيون سلسلة من الحروب حول مسألة الحدود الوطنية، وحول مسألة امتلاك الحق في العيش في مكان ما. وقد أدى ذلك إلى واحدة من أكبر المجازر التي وقعت في التاريخ البشري.
وقد أدت ذكرى تلك المذبحة إلى إنشاء الاتحاد الأوروبي. وكان المبدأ الذي قام عليه تأسيس الاتحاد الأوروبي هو عدم تكرار حدوث هذه المجزرة أبدًا. ولكن يفتقر الاتحاد الأوروبي إلى سلطة إلغاء الدولة القومية؛ لإنها أمر جوهري للغاية بالنسبة لشعور الأوربيين بالهوية. وإذا ما ظلت الدولة القومية قائمة، فسوف تظل فكرة المكان والحدود قائمة أيضًا.
ومع ذلك، إذا كان لا يمكن إلغاء الدولة القومية، فيمكن على الأقل أن تفقد هذه الحدود أهميتها. وبناء على ذلك، ظهر مبدئان في أعقاب الحرب العالمية الثانية: الأول، وهو مبدأ سابق على فكرة الاتحاد الأوروبي، أن الحدود القائمة في أوروبا لا يمكن تغييرها. وكان الأمل يكمن في تجميد حدود أوروبا، وبالتالي يمكن إنهاء الحرب.
والمبدأ الثاني، جاء مع نضوج فكرة الاتحاد الأوروبي، وينطوي على أن مجموعة الحدود الداخلية للدول الأوروبية موجودة وغير موجودة على حد سواء. بمعنى أنها موجودة بالنسبة لترسيم حدود الدول القومية والحفاظ على عقيدة حق تقرير المصير الوطني، لكنها غير موجودة فيما يتعلق بحركة البضائع والعمل ورأس المال. وكان هذا المبدأ ليس بشكل مطلق –فقد كانت بعض الدول محدودة في بعض هذه الأماكن- ولكنه كان مبدأ عامًا وهدفًا. ويتعرض هذا المبدأ للهجوم الآن بواسطة هذه الأزمات الثلاث المختلفة.
حركة المسلمين في أوروبا
نتج عن الفوضى الناجمة في الشرق الأوسط تدفق اللاجئين باتجاه أوروبا. ويضاف هذا إلى مشكلة الهجرات الإسلامية السابقة إلى الدول الأوروبية والتي تم تشجيعها من قبل الأوروبيين. فبعد أن تعافت أوروبا من الحرب العالمية الثانية، احتاجت إلى عمالة إضافية ذات تكلفة منخفضة. ومثلما فعل غيرها من الدول الصناعية المتقدمة، حث عدد من الدول الأوروبية المهاجرين على شغل هذه الفجوة، وكان الكثير منهم من العالم الإسلامي. وفي البداية، نظر الأوربيون إلى المهاجرين كمقيمين مؤقتين.
ومع مرور الوقت، منحهم الأوربيون الجنسية مما خلق حالة من التعدد الثقافي، والتي تبدو كلفتة من التسامح واعترافًا ضمنيًا بالتعايش المشترك، بالنظر إلى رفض بعض المسلمين للاستيعاب الكامل. ولكن هذه الحالة خدمت بالأساس عملية إقصاء المسلمين من المشاركة الكاملة في ثقافة البلد المضيف حتى مع حصولهم على الجنسية الشرعية. ولكن كما قلت، فإن المفهوم الأوروبي للأمة كان يتم تحدّيه بواسطة فكرة دمج ثقافات مختلفة داخل المجتمعات الأوروبية.
وبسبب الفشل في إدماج المهاجرين بشكل كامل، والهجمات الإرهابية بشكل جزئي، بدأ قطاع متزايد من المجتمع الأوروبي بالنظر إلى المسلمين الموجودين بالفعل في أوروبا كتهديد. وناقشت بعض الدول بالفعل إعادة إحياء فكرة الحدود الداخلية الأوربية، ليس فقط لمنع حركة المسلمين، ولكن أيضًا لمنع غيرهم من الأوروبيين الذين يبحثون عن وظائف في الأوقات الاقتصادية الصعبة. وقد أثارت الموجة الأخيرة من اللاجئين نقاش تلك المسألة على مستوى جديد.
وقد أجبرت أزمة اللاجئين الأوروبيين على مواجهة قضية أساسية، وهي المبادئ الإنسانية للاتحاد الأوروبي التي تطالب بمنح اللاجئين مأوى. وحتى الآن، هددت موجة أخرى من اللاجئين المتدفقين إلى أوروبا باستفحال اختلال التوازن المجتمعي والثقافي في بعض الدول التي تتوقع بشيء من الرهبة وصول المزيد من المسلمين. وعلاوة على ذلك، بمجرد السماح بدخول اللاجئين إلى أوروبا عن طريق إحدى دول أوروبا، فلا يمكن لبقية الدول أن تمنع حركة اللاجئين.
فمن يتحكم في حدود أوروبا الخارجية؟ هل تقرر أسبانيا من الذي يدخل إلى أسبانيا، أم أن الاتحاد الأوروبي هو الذي يقرر؟ من الذي يقرر، وهل فكرة حرية تحرك العمالة تتضمن مبدأ حرية تحرك اللاجئين؟ وإذا كان الأمر كذلك، فقد فقدت دول الاتحاد الأوروبي القدرة على تحديد من الذي يمكنه أن يدخل إلى مجتمعاتهم، ومن الذي يمكن استبعاده. وبالنسبة لأوروبا، وبالنظر إلى تعريفها للدولة، يعتبر هذا السؤال غير مستغرب، بل سؤال مشروع. إذ يمس جوهر تعريف الدولة، وما إذا كانت الدولة الوطنية ،وفقًا لمبدأ حق تقرير المصير الوطني، يحق لها أن تتخذ هذا القرار وتقوم بتنفيذه أم لا.
وهذه المسألة لا تخص المسلمين فقط، ففي القرنين التاسع عشر والعشرين، أثار اليهود القادمين من الشرق –وهم اليهود القادمين إلى أوروبا الغربية الذين فروا من الأوامر القيصرية- نفس التحدي، على الرغم من كونهم يسعون بشكل أكبر للاستيعاب. ولكن في تلك المرحلة، كانت فكرة الحدود غير واضحة، حتى لو لم يكن هناك قرار واضح بشأن كيفية دمج اليهود.
وفي العديد من الدول، يعتبر وضع الأقليات في الدول المجاورة مسألة مزعجة، ولكن كان هناك أدوات للتعامل معها. والمسألة الإسلامية مسألة لا نظير لها في أوروبا فقط، إلى الحد الذي جعل الاتحاد الأوربي يجعلها مسألة فريدة من نوعها. وقد حاولت دول الاتحاد الأوروبي الحفاظ على الحدود مع إضعاف أهميتها، والآن توجد معارضة متزايدة ليس فقط لهجرة المسلمين، ولكن أيضًا لفهم الاتحاد الأوروبي لمسألة الحدود وحرية الحركة.
الأزمة اليونانية
تتعلق مسألة الحدود أيضًا بصميم الأزمة اليونانية. فنحن أمام مسألتين: إحداهما صغيرة، والأخرى أوسع منها. وتنطوي المسألة الصغيرة على ضوابط حركة رأس المال. حيث يلتزم الاتحاد الأوروبي بسوق مالية أوروبية واحدة من خلالها تتدفق رؤوس الأموال بحرية. وقد قام اليونانيون ،خوفًا من نتائج الأزمة الحالية، بنقل مبالغ كبيرة من المال إلى خارج اليونان إلى بنوك أجنبية. حيث يتذكرون ما حدث خلال أزمة قبرص، عندما استسلمت الحكومة إلى المطالب الألمانية على وجه الخصوص وقامت بتجميد والاستيلاء على الأموال المودعة في البنوك القبرصية. ووفقًا لقواعد الاتحاد الأوروبي، فإن نقل الودائع من دولة إلى أخرى داخل كتلة الاتحاد الأوروبي أو حتى خارجه يعتبر عملًا شرعيًا. ومع ذلك، في حالة قبرص، تم توقيف حركة رؤوس الأموال عبر الحدود، ويمكن أن يحدث نفس الشيء بالنسبة لليونان.
وفي كل الحالات، أي مبدأ له الأسبقة: حرية حركة رؤوس الأموال أم سلطة الاتحاد الأوروبي الشاملة للتحكم في تدفق هذه الأموال؟ وهل المواطنون اليونانيون مسؤولون بشكل شخصي عن ديون حكومتهم، ليس فقط من خلال سياسات التقشف، ولكن أيضًا عن طريق الضوابط التي فرضتها الحكومة اليونانية تحت ضغط أوروبي لمنع حركة أموالهم؟ وإذا ما كانت الإجابة هي الأخيرة، فإن الحدود على رأس المال يمكن أن تكون مؤقتة.
أما المسألة الكبرى فتتعلق بحركة البضائع. حيث أن هناك بعدًا مهمًا من أبعاد هذه الأزمة يشتمل على التجارة الحرة. وتصدر ألمانيا أكثر من 50% من إنتاجها المحلي الإجمالي. وتعتمد عملية ازدهارها على هذه الصادرات. وأنا قلت أن عدم القدرة على السيطرة على تدفق البضائع الألمانية إلى جنوب أوروبا قد قاد المنطقة إلى تدهور اقتصادي. وقد ساعدت قدرة ألمانيا على التحكم في تدفق البضائع الأمريكية إلى البلاد في فترة الخمسينيات على انتعاش الاقتصاد الألماني. ويفرض الاتحاد الأوروبي قيودًا على حركة بعض المنتجات، وخاصة المنتجات الزراعية، من خلال عملية الدعم وتحديد الحصص المطلوبة. ونظريًا، فإن التجارة الحرة مفيدة للجميع. وعمليًا، فيمكن لدولة واحدة أن تحقق مكاسب على المدى القصير تفوق بكثير المكاسب التي يحققها الآخرون على المدى الطويل. والقدرة على السيطرة على تدفق السلع هي أداة يمكنها أن تجعل عملية النمو بطيئة، ولكنها تقلل المعاناة.
والمبدأ الأساسي للاتحاد الأوروبي ينص على حرية التجارة. بمعنى ألا تصبح الحدود نقطة تفتيش لتحديد السلع التي يمكن أن تدخل والتي لا يمكن أن تدخل دولة ما تحت أي تعريفة جمركية. وهذه النظرية ممتازة، لولا فشلها في معالجة تزامن الفوائد للجميع. كما أنها تعني أن الحق في تقرير المصير لم يعد يشتمل على الحق في السيطرة على الحدود.
أوكرانيا و”حرمة” الحدود
وأخيرًا، توجد قضية أوكرانيا، والتي لا تتعلق بشكل أصيل بأوكرانيا بقدر ما تتعلق بالمبدأ الأوروبي السابق: لا يمكن السماح بتغيير الحدود. وجوهر هذه القاعدة ينطوي على أن تغيير الحدود يؤدي إلى عدم الاستقرار. وقد سادت هذه القاعدة بين عامي 1945 و1992. كما نتج عن انهيار الاتحاد السوفييتي تكوين ثماني دول جديدة في وسط وشرق أوروبا، و15 دولة مستقلة جديدة –بما فيها روسيا- من الأجزاء التي كانت تشكل الاتحاد السوفيتي. ويمكن القول بأن سقوط الاتحاد السوفييتي لم يغير قاعدة الحدود، ولكن هذا احتمال بعيد. فقد تغير كل شيء، وحدث “الطلاق المخملي” بين سلوفاكيا وجمهورية التشيك، والآن هناك حالات طلاق محتملة في المملكة المتحدة وأسبانيا وبلجيكا.
وربما الأهم من ذلك، انهيار هذه القاعدة في يوغوسلافيا، حيث انقسم كيان واحد إلى العديد من الدول المستقلة، ومن بين عواقب أخرى لهذا الانقسام، نشبت حرب بين الحدود. وانتهى الصراع إلى انفصال كوسوفو عن صربيا وتأثير ذلك على وضع الدولة المستقلة. وقد استخدمت روسيا هذا التغيير في الحدود لتبرير إعادة ترسيم حدود جورجيا، وهي سابقة تدعم موقفها الحالي بالمطالبة بالسيطرة على شرق أوكرانيا. وبالمثل، تغيرت الحدود بين أذربيجان وأرمينيا بشكل كبير كنتيجة للحرب. (وفي سياق متصل، تم تقسيم قبرص بين الحكم التركي واليوناني بما سمح في عام 2004 بدخولها ضمن حدود الاتحاد الأوروبي على الرغم من النزاع الحدودي الذي لا يزال غير مستقر).
ومنذ نهاية الحرب الباردة، تم انتهاك مبدأ حرمة الحدود بشكل متكرر، سواء من خلال إنشاء حدود جديدة، أو من خلال التقسيمات السلمية، أو من خلال الحروب العنيفة. وقد ظل مبدأ الحدود المستقرة قائمًا حتى عام 1991 قبل أن يخضع لسلسلة من التحولات الجذرية التي حسمت الصراع أحيانًا، وأحيانًا أخرى تركته بلا حل. وقد رحب الأوربيون بمعظم هذه التعديلات في الحدود، وفي حالة واحدة –حالة كوسوفو- قام الأوربيون أنفسهم بتصميم هذا التغيير.
وفي هذا السياق، يجب التفكير في حرب أوكرانيا. حيث تجادل أوروبا، بدعم من أمريكا، أن روسيا تسعى إلى تغيير الحدود المحرمة. وهناك العديد من الحجج المعتبرة يمكن أن تساق ضد تدخل الروس في أوكرانيا والتي قمت بصياغتها في الماضي. ومع ذلك، فمن الصعب دعم فكرة أن الروس يفعلون شيئًا غير مسبوق في محاولتهم لإعادة ترسيم حدود أوكرانيا. فقد كانت حدود أوروبا في حالة تغيير مستمر لبعض الوقت. وهذا في واقع الأمر مسألة مثيرة للقلق؛ وتاريخيًا، كانت الحدود غير المستقرة في أوروبا تعتبر مقدمات للحرب، كما رأينا في يوغوسلافيا والقوقاز وأوكرانيا الآن. ولكن من الصعب أن نقول أن هذا العمل الذي تقوم به روسيا هو في حد ذاته عملاً غير مسبوق في أوروبا. حيث يعتمد مبدأ حق تقرير المصير الوطني على فهم واضح لمفهوم الدولة والاتفاق بشأن حدودها. الأوربيون أنفسهم هم من أقروا في البداية بأن الحدود غير قابلة للتغيير.
هناك نوعان من المبادئ المتنافسة. الأول، رغبة الاتحاد الأوروبي في أن تكون الحدود قابلة للعبور تمامًا دون أن تفقد الدولة السيادة في حق تقرير المصير. ومن الصعب أن نرى إلى أي مدى يتوافق نقص السيطرة على الحدود مع حق تقرير المصير الوطني. والمبدأ الثاني هو أن الحدود القائمة لا يمكن تغييرها. ويريد الاتحاد الأوروبي أن يقلل من أهمية الحدود من جهة، كما يريد أن يجعلها غير قابلة للتغيير من جهة أخرى.
وكلا المبدأين لم يحقق نجاحًا في أوروبا. حيث ترغب العديد من الدول في العودة للسيطرة على حدودها. وبطرق مختلفة، تتقاطع أزمة المهاجرين المسلمين والأزمة اليونانية مع مسألة من يسيطر على الحدود. وفي الوقت نفسه، فإن مسألة حرمة الحدود لم يتم الالتزام بها منذ سقوط الاتحاد السوفيتي.
وفكرة أن الحدود أمر قديم تصبح ذات معنى فقط إذا أصبحت الدولة ذات السيادة بالمفهوم القديم أيضًا. وليس هناك أي دليل على أن هذا أمر صحيح في أوروبا. بل على العكس من ذلك، فكل الضغوط الثقافية والاقتصادية التي نراها تشير إلى عدم استمرار فكرة القومية فقط، بل أيضًا إلى زيادتها المستمرة في أوروبا. وفي الوقت نفسه، لا يوجد أي دليل على أن تغيير الحدود ينحسر. وفي الواقع، خلال الربع الأخير من القرن الماضي، زاد عدد التغيرات والتحولات في الحدود سواء بشكل حر أو عن طريق الضغط. وكل تغير يحدث في الحدود القومية، مثل الذي يحدث حاليًا في أوكرانيا، هو تحدي لواقع الأمة والهوية.
وقد وعد الاتحاد الأوروبي بالسلام والازدهار. والازدهار هو أمر ممزق الآن. وقد تعطل السلام بشكل متقطع –ليس داخل الاتحاد الأوربي بل من حوله- منذ توقيع معاهدة الاتحاد الأوروبي في عام 1992 لإنشاء اتحاد اقتصادي ومصرفي مشترك. ويرتبط كل هذا بمسألة الحدود وما تمثله ومدى الجدية التي نتعامل بها مع هذه المسألة. حيث تعني الحدود أن هذه هي دولتي وليس دولتك. وكانت هذه الفكرة مصدرًا للمعاناة في أوروبا وأماكن أخرى. وعلى الرغم من ذلك، فإنها واقع لا يتجزأ من حياة الإنسان. الحدود أمر مهم بطرق مختلفة. والأزمة الأوروبية ككل متجذرة في مسألة الحدود. ومحاولة إلغاء الحدود يعد أمرًا جذابًا من الناحية النظرية، ولكن النظرية تواجه الواقع عبر حدودها.