توحي القراءة العربية للذكرى المئوية لاتفاق سايكس- بيكو بأن كياناتنا ومكوناتنا استفاقت في صباح اليوم الذي أكمل عدة المائة عام لتكتشف آثار التجاعيد التي أحدثتها تلك الاتفاقية على وجهها، وكأنه قبل هذا اليوم كان ثمة أمل في استعادة شيء من جمال طلتنا وحيوية روحنا، والآن كل شيء فات أوانه، إنه قرن من الزمان، فلا الإصلاح السياسي عاد ممكناً، ولا التنمية في اليد، وحتى المحافظة على الحدود (الطبشورية) التي رسمتها الاتفاقية صار مستحيلاً.
ليس ذلك وحسب، بل يبدو الأمر وكأن كياناتنا ومكوناتنا كانت تنتظر إكمال المائة سنة الأولى من عمر الاتفاقية، لكي تحكم على إنجازاتها ووعودها، خرابها وما صنعته من إفرازات وتداعيات، وكأن لسان حال نخب المشرق ومكوناتها كان يقول: حسناً، أليس هذا ما يريده الاستعمار والإمبريالية، لننتظر ونحكم على الأمور بخواتيمها، ونثبت لهم أنهم كانوا مخطئين في التقدير والحساب.
هل كان مسار التاريخ ممسوكاً بهذه الصلابة في منطقتنا، بحيث لم يكن ممكناً التفلت من الهندسة التي وضعتها القوى الاستعمارية والخروج عن النص الذي صممّته؟ إذا كان الأمر كذلك، فهذا يعني وجود إشراف لصيق من القوى الاستعمارية صاحبة المشروع، ومتابعة دائمة، بما يتطلب ذلك من موارد وإمكانات ومستوى معين من الحضور، فهل كان الأمر كذلك؟
تثبت الوقائع التاريخية أن الإطار الذي صنعه البريطاني سايكس والفرنسي بيكو فككته بلداهما منذ منتصف أربعينيات القرن الماضي، في حين أن النخب الوطنية هي التي أمنت القوة التشغيلية لبقاء الهياكل المسماة سايكس بيكوية. ومنذ ذلك التاريخ، لم يعد ثمة وجود واقعي لفرنسا وبريطانيا في المنطقة، كما أن أثرهما السياسي وفعاليتهما العسكرية اندحرت تماماً بعد العدوان الثلاثي سنة 1956، وتنصيب الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي نفسيهما القوى الفاعلة والموجهة للأحداث في الشرق الأوسط. والمعلوم أن هاتين القوتين لم تكونا معنيتين بالبقاء على الترسيمة التي صنعتها القوى الاستعمارية التقليدية. وبالتالي، لم يكن ثمة عوائق خارجية، تقف في مواجهة إعادة صياغة الوقائع الجغرافية والديمغرافية وتشكيلها بطريقةٍ تخالف التصميم الذي صنعه سايكس وبيكو.
أكثر من ستين عاما عاشت تلك البقعة الجغرافية تحت سيطرة نخبها، وهي مدة كافية لتحويل مجاري التاريخ، حيث ترغب تلك النخب والمكونات، كما أن الحرب الباردة وفّرت للأطراف العربية فرصةً ثمينةً لتعزيز مواقفها التفاوضية، في ظل تنافس محموم بين القطبين العالميين في ذلك الوقت، وهو الوضع نفسه الذي استفادت منه دول وأقاليم في آسيا وأميركا اللاتينية في تغيير واقعها إلى الأفضل وتطوير قدراتها وتعزيز حضورها الحضاري.
الواقع أن اتفاقية سايكس بيكو كان يمكن أن تكون في ذكراها المئوية الأولى مثل أي حدث طرأ وبات من التاريخ، وأن تكون العقود السابقة كافيةً لتجاوز آثاره، أما أن يكون هو الحدث الذي بقي صانعاً لتاريخ هذه المنطقة، ومحدداً لمستقبلاتها، فذلك لا شك يعني وجود خلل بنيوي عميق، تعاني منه هذه الكيانات والمكوّنات التي بدت كمن يمارس لعبة التورية على نفسه، بحيث يلعن الشيطان في العلن، ويقدّسه في السر، ويضعه مثل أيقونةٍ في مكان عزيز، ففي حين كان أهل المشرق، نخباً وجماعات، يمارسون عادة لعن سايكس بيكو مع قهوة الصباح اليومية، كانت الوطنيّات التي رسمتها مسطرة اتفاقيتهما داخل الحدود” الطبشورية” تتحوّل إلى مقدّساتٍ عندها تقف نهاية العالم. ثم إن سايكس وبيكو رسما إطاراً تستفيد منه دولهما الاستعمارية في فترةٍ زمنيةٍ معينة، لكنهما لم يصنعا أقداراً لا يجوز تخطيها، ولم يثبت التاريخ أنهما وضعاً أنهاراً وجبالاً تفصل بين بلدان المشرق، ولو لم يكن لتلك الترسيمة حاضنة اجتماعية وسياسية تدافع عنها لما استمرّت حتى اليوم، وبالتالي، من الغبن أن يتم تحميل كل الخطايا على شماعة سايكس وبيكو، كما أن المشكلة كانت دائماً في عدم توفر نماذج بديلة ولا محفزات كفيلة بتشغيل تلك البدائل. باختصار، فشلنا في صناعة شيء خارج ما رسمه العقل العالمي لنا.
في الذكرى المئوية لسايكس بيكو، يتضح أن المشكلة عند أهل المنطقة تقنية أكثر منها سياسية، بمعنى أن الإشكالية التي أوجدها ذلك الاتفاق تنحصر فقط في مكان خطوط الحدود التي ضمتها الخارطة التي صنعتها الاتفاقية، في حين أن الواقع يشير إلى إشكالياتٍ بنيويةٍ عميقةٍ، تتمثل بعدم توفر مشاريع سياسية، ولا روافع اقتصادية وحوامل اجتماعية لها، لم يكن في المنطقة سوى مشروع الملك فيصل القاضي بتحويل سورية والأردن إلى ما تسمى سورية الكبرى، وهو مشروع حماسي أكثر منه واقعي، لأن بعض المكونات في المنطقة كانت ترفضه، مثل موارنة لبنان واليهود الذين باتوا يشكلون حضوراً ملموساً في فلسطين.
كانت هزيمة فلسطين الحدث الأول الكاشف عن حقيقة تلطي الفواعل في المنطقة، خلف ذرائع واهية من نوع حاكمية الدور الاستعماري ومفعوله الذي لا ينتهي، على الرغم من كل المتغيرات الجارية والمتدفقة، ثم الهزائم الفادحة والمتكرّرة لدول الطوق، فكان عدم اجتراح نمط مقاومة للانتصار على إسرائيل انعكاسا لعجزٍ أكبر سيصار إلى إلقاء الضوء عليه، عجز مقيم في كل المستويات، خصوصاً السياسي فيه، ليتحوّل مع الزمن إلى مولّد لقوى تفجيرية هائلة، تطيح كل الترسيمات والأقفاص القديمة.
في الذكرى المئوية لاتفاق سايكس- بيكو، الأصح أن المكوّنات والكيانات في منطقتنا استفاقت لتنظر في مرآتها، ولا ترى غير الدماء والجراح تغطي كامل مساحة جسدها، وفي الخلفية صورة دمار كبير صنعته قوىً لا تنتمي بيولوجياً لا لسايكس ولا لبيكو، بل جزء من جلدتها.
العربي الجديد