عدلي صادق – العربي الجديد
ذات خطاب لبشار الأسد، بعد أن شاعت غضبة الشعب في أرجاء سورية، وبدا نظام الفساد والاستبداد يترنح؛ تمثل الخطيب المُفوّه حال الثقة العالية بانتصار مؤزّر، وتحدث رابط الجأش، في قاعة شديدة الحراسة. كان ذاك واجبه الذي أداه بإجادة. أما الحاضرون فقد وجدوا أنفسهم، من خلال مطولته الخطابية تلك، في سياق مغاير لوقائع الوضع وتطوراته على الأرض. كثيرون منهم، بعد انتهاء الخطاب، تدافعوا إلى زاوية درجات الصعود إلى المنصة، يريدون لمس الرئيس، أو التعلق بأهدابه، قبل أن يغادر إلى “عرينه” الآمن، كأنما الحديث كله لم يكفهم لكي يطمئنوا. فلم تعد سورية كلها “عرين الأسد”، مثلما كان يُحكى أربعين سنة، عندما كانت تخرج من أقبية استخباراتها خطط الاغتيالات والفتنة والعمليات الأمنية المعقدة، وتخليق المحن والانقسامات، للشعوب والأنظمة وحركات التحرر، وقتل الرفاق القدامى الذين أفلتوا من السجن وغادروا.
تدافع رجال النخبة، الحاضرون، مثل الصبية المشجعين فريق كرة قدم، عندما يتدافعون إلى اللاعب الهدّاف الأوحد والمُنقذ الذي أصبحت مجرد ابتسامته قبساً من نور النجاة والفوز، بينما غيوم الموت تزداد تلبداً والأخطار أحدقت بالحاضرين والمتابعين في سورية.
في ذلك الخطاب المطوّل (10/1/2012) رسم الرئيس الناجي صورة وردية للمستقبل، ونصّب نفسه واثقاً من الانتصار على العالم كله. لم يقل كلمة عن مطلب واحدٍ محق للشعب السوري، وكأن لا مشكلة لسوري مع نظام وراثي مديد، أثخن شعبه بكل أنواع الجراح. كان سياق الخطاب محض شرح تفصيلي للعبارة المختصرة التي خطتها أيدي جنود النظام على جدران المدن والحارات المستعصية التي “فتحها”: الأسد.. أو نحرق البلد.
المتدافعون غريزياً إلى المنصة، بعد انتهاء الخطاب، تحسسوا، تلقائياً، فداحة حريقٍ سوف يشملهم، في المكاسرة المرعبة بين فريق يرى إما الأسد أو الحريق، والآخر يرى استحالة أن يظفر السوريون بحياة آدمية، يمتلكون فيها إرادتهم، ويأمنون على أعراضهم ومقدراتهم واقتصادهم وحريتهم، مع وجود نظام الأسد.
بعد الخطاب، تداعت المآسي، وأصبح السوريون يفتشون لأنفسهم عن مواضع آمنة، يمكثون فيها ريثما ينتهي الحريق، ومن لم يستطع الوصول إلى مأمن عاش مع هواجس القصف بالبراميل المتفجرة والغازات السامة، أو سقط هو وأطفاله صرعى. وكلما ضاقت مساحة الأرض والقوة العسكرية، الخاضعتين للنظام، كان الأخير يعزز فاعليته بأدوات جديدة: القومي العربي، افتراضاً وادعاءً، يستعين بالقومي الفارسي، والعلماني يستعين بجماعات الدروشة الطائفية، ويستعين بضدها، بتدابير استخبارية يبرع فيها المستبدون، فيمهد ويستحث جماعات السلفية الجهادية، الضامنة تخريب كل شيء وتشويه كل وجه، ويدير شبكة اغتيالات لخلط الأوراق، ويرسل المتفجرات إلى المدن والأحياء، وإلى الخارج، لتفخيخ السيارات، لكي لا يكون هناك بديل لرئيس النجاة والموت. وإن عزّ عليه تأمين طرق وصول المتفجرات إلى خلاياه، لتنفيذ اغتيالاتٍ شديدة الحساسية في لبنان، كان يستعين بشخصياتٍ مهمة أو وزراء سابقين، مثلما فعل عندما أرسل عدة القتل، مع ميشيل سماحة الذي ضبطته قوى الأمن اللبنانية متلبساً. ولأن رئيس الموت لا يعترف مطلقاً أنه ارتكب هفوة، (ما بالنا بجريمة)، تراه يُحيل كل قرينة إلى عالم المؤامرة، وإن كانت القرينة صارخة وبليغة، فإنه يضحّي بمجرم من أشد انصاره وخدمه، صارخ وبليغ وضليع في القتل. يقتله في ظروف تُوصف بأنها غامضة، في محاولة طمس الحقيقة. ولمَ لا، وهو، على أهميته، ليس أكبر من البلد الموعودة بالحريق، إن لم يكن الأسد رئيسها؟
لم يقرأ الأسد التاريخ. كانت تكفيه قراءة فصل منه، لكي يتعلم. لو عرف كيف نشأ ملوك الطوائف الذين حولوا الأندلس إلى 22 دويلة، لأدرك أن أوهام كل متزعم أدار رأسه العناد والغرور انتهت إلى مآسٍ، وإلى هزيمة ماحقة. لم ينجُ واحدٌ من أولئك، حتى عندما ثابروا جميعاً على دفع الجزية للملك ألفونسو السادس، واستعانوا به بعضهم على بعض.