تشهد المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة السورية في ريف إدلب، تحوّلات ديمغرافيّة وجغرافيّة كبيرة، فرضتها ظروف الحرب الدائرة في البلاد، حيث ينسحب السكان من مراكز المدن والقرى، التي تتعرض لقصف شبه يومي من قوات النظام السوري إلى الأراضي الزراعية المحيطة بها.
وتواجه مدن وبلدات ريف إدلب ترك الأهالي لمناطق سكنهم والانتقال إلى المناطق الأقل تعرضاً للقصف، من خلال شراء مساحات صغيرة من الأراضي الزراعية في تلك المناطق وبناء بيوت بهدف الاستقرار فيها بعيداً عن قذائف النظام، ولكي يستقيلوا من همّ دفع أجرة بيت في تلك المناطق.
ومن شأن تكرار ذلك أن يؤدي إلى خروج قسم كبير من الأراضي الزراعية لصالح التوسع العمراني، كما أنّ الكتل العمرانية الموجودة في تلك الأراضي ستواجه مشكلة تأمين البنى التحتية والخدمية لها بسبب انتشارها على مساحات واسعة ضمن الأراضي الزراعية.
وفي هذا السياق، تحوّلت إحدى الأراضي الزراعية المحيطة بمدينة بنش في ريف إدلب، وتدعى وادي عنبر، وهي منطقة تشتهر بكروم العنب والزيتون وزراعة القمح والمزروعات الصيفية، خلال سنوات الثورة السوريّة الأربع إلى شبه حي، متباعد المساكن، لأهالي بنش الذين يمتلكون أراضي زراعية في تلك المنطقة، علماً أنّها تبعد نحو ستة كيلومترات عن بنش وحوالي ثمانية كيلومترات عن مدينة سراقب، ومثلها عن مدينة سرمين.
تمكّنت أم عدنان، وهي سيدة ستينيّة من مدينة بنش، من بناء ثلاث غرف في أرضها الزراعية في وادي عنبر، بمساعدة ابنها المغترب في إسبانيا. خصصت اثنتين منها للسكن مع أبنائها وأحفادها، فيما حوّلت الثالثة إلى دكان صغير يلبي احتياجات الناس الذين يقطنون المنطقة. تقول أم عدنان لـ “العربي الجديد”: “اضطرّنا القصف على مدينة بنش إلى النزوح مرات عدّة إلى المدن القريبة من الحدود، وكنّا في كلّ مرة، نستأجر فيها بيتاً بمبلغ كبير نظراً لكثرة الطلب على البيوت في تلك المناطق، ولكن بعدما أدركنا أنّ الحرب مستمرة لفترة طويلة، اقترح ابني المغترب في إسبانيا أن نبني بيتاً في أرضنا الزراعية هنا بعيداً عن القصف، ونستقر فيه بدلاً من التنقل من قرية إلى أخرى”. وتوضح أنّ “السكن في المدينة كان مغرياً بسبب توفر الخدمات من ماء وكهرباء وصرف صحي وهاتف وإنترنت، أما الآن فقد بات الوضع متشابهاً اينما ذهبنا، فالكهرباء نادراً ما تتوفر وهنا نستطيع تأمينها من الشبكة التي تمر بالقرب منا، حين توافرها، أما الماء فنؤمنه هنا من آبار المشاريع الزراعيّة لجيراننا، ولدينا في كل بيت قبضة لاسلكية نستخدمها بدل الهاتف”.
اقرأ أيضاً: القبضة اللاسلكيّة: أكثر من وسيلة إعلام بمناطق المعارضة السورية
لا تنكر أم عدنان أنّ حياتها وعائلتها باتت “شبه بدائية”، لكنّها تقول إنّها “أكثر أمناً من العيش تحت القصف في بنش، وأفضل من استئجار بيت في قرية حدودية”، مضيفة “نستطيع تأمين الكثير من احتياجاتنا من الخضرة من خلال زراعتها في أرضنا، كما نتبادل بعض أنواع الخضرة مع جيراننا”.
وتشير أم عدنان إلى أنّ “الحياة في منزلها الجديد مقبولة صيفاً، ولكن الصعوبة تكمن في فصل الشتاء، إذ يصبح التنقّل صعباً ضمن الأراضي الزراعية، وبالتالي يصعب الوصول حتى إلى بيوت الجيران، التي يبعد أقربها عن بيتهم نحو 500 متر، بالإضافة إلى صعوبة تأمين وسائل التدفئة”.
بيوت بدائية
لم يكن محمود الصادق، وهو موظف من بنش، يمتلك أرضاً زراعية يهرب إليها من القصف، لكنه يروي لـ”العربي الجديد”، كيف تمكّن “بعد الاتفاق مع خمسة من أصدقائه، من شراء دونم أرض في تل المعمرية، وهي منطقة تبعد نحو خمسة كيلومترات عن المدينة، وتشييد بيوت بدائية فيها”.
ويقول: “لم أكن أملك أي مبلغ لبناء البيت، لكنني تمكّنت خلال زمن قياسي من بناء غرفة وحمام بدائي، تقيني وأبنائي شر القصف، وأعيش مع جيراني الذين اخترتهم ضمن هذه المنطقة ونتعاون في تأمين متطلباتنا المعيشية”.
ويرى أنّ “المشكلة الأساسيّة التي تواجه الناس الذين بنوا بيوتاً في المناطق الزراعية هي تأمين وصول أطفالهم إلى المدارس، إذ تمتنع الكثير من الأسر في المناطق الزراعية عن إرسال أطفالها إلى المدارس في المدينة، إما بسبب الخوف عليهم من القصف أو بسبب عدم توفر وسائل النقل، فيما لا يزال بعض المقتدرين ممن يمتلكون سيارات، يتولون إيصال أطفالهم إلى المدارس عندما تكون الأوضاع هادئة”.
من جهته، اختار سعيد الدروبي المتحدّر من مدينة بنش أيضاً، أن يشتري أرضاً زراعية في محيط مدينة الدانا الحدودية مع تركيا. يقول لـ”العربي الجديد” إنّه “قرّر الابتعاد قدر المستطاع عن المناطق التي تتعرض للقصف”، لافتاً إلى أنّه “اشترى قطعة أرض صغيرة في إحدى الأراضي الزراعية المحيطة بمدينة الدانا، لضمان أكبر قدر من السلامة لأسرته، ولأنّ أسعار الأراضي في تلك المنطقة لا تختلف كثيراً عن سعرها في مدينته”.
ويضيف الدروبي: “هناك الكثير من المشاكل، التي تبدو صغيرة الآن ولكنها مع الوقت قد تصبح مشاكل كبيرة، فمشكلة الصرف الصحي لا تبدو الآن مشكلة كبيرة، إذ نعتمد على الحفر الفنية، ولكن مع مرور الوقت قد تساهم هذه الحفر بتلوث مياه الشرب وتتسرب لمياه الآبار في المنطقة”.
وفي هذا الصدد، يوضح عضو المكتب الفني سابقاً في مجلس محافظة إدلب، المهندس المدني ساري السيد علي، لـ”العربي الجديد”، أنّ “لكلّ مدينة نظاماً عمرانياً أو ما يسمى ضابطة البناء، لتنظيم عمليات البناء، من الناحيتين الإنشائية والفنية، سواء كان سكنياً أو تجارياً أو زراعياً”.
ويشير إلى أنّ “التنظيم من الناحية الفنيّة يكون بمتابعة عملية البناء، من حيث المساحة ونسبة البناء المسموح والارتفاع والالتزام باستقامة الشوارع وضمان عدم التعدي على الممتلكات العامة والخاصة”، ولكنْ في ظلّ الظروف الحالية للبلد وغياب الحالة القانونيّة السابقة، وخصوصاً في ما يتعلّق بالبناء الزراعي ونسبة البناء المسموح بالنسبة لمساحة الأرض المبني عليها، بالإضافة إلى معرفة ما إذا كانت الأرض من ضمن المساحات المسموح البناء عليها أصلاً، أي غياب كلّ هذه الضوابط، يجعل من زحف البناء باتجاه الأراضي الزراعية يشكل خطراً حقيقياً على المساحات القابلة للزراعة”.
ويقول إنّ ذلك “يؤثّر بالتالي على الإنتاج الزراعي، ذلك أنّ البناء ضمن الأراضي الزراعيّة، لا يقتصر ضرره على المساحة المبنية بل يتعداه إلى أضعاف مساحتها، بسبب الحاجة للمرافق العامة للبناء”، مشيراً في الوقت ذاته إلى أنّ “التعامل مع هذه الظاهرة التي فرضتها ظروف الحرب في المستقبل سيكون مكلفاً من ناحيتين، الأولى هي الكلفة الباهظة لتأمين بنية تحتية لهذه الأحياء المبعثرة التي نشأت ضمن الأراضي الزراعية، والكلفة الأخرى المساحات الهائلة من الأراضي الزراعية التي يستهلكها تأمين مرافق للمباني التي تم بناؤها”. ويضيف: “تستهلك المباني التي أنشئت في الأراضي الزراعية لمدينة بنش وحدها، أكثر من خمسة آلاف دونم من الأراضي الزراعية، وتستطيع أن تقيس في باقي المناطق على ذلك”.
العربي الجديد