أؤمن أن الإنسان لا يموت دفعةً واحدة، كلّما مات له قريبٌ أو صديقٌ أو أحدٌ من معارفه فإن الجزء الذي يحتله هذا الصديق أو القريب يموت في نفس هذا الإنسان، و مع الأيَّام و تتابع سلسلة الموتِ تكثر الأجزاء التي تموت داخلنا.. وتكبر المساحة التي يحتلُّها الموت.
أم عبد الرحمن امرأة خمسينية من ريف إدلب تزوجت بعد أن أكملت تعليمها الجامعي, وأقامت مع زوجها “الرجل الوقور” في مدينة حلب, رزقت منه بأربع فتيات وولد وحيد, لم تشأ وعائلتها الخروج من حلب بعد اشتداد قصف النظام الوحشي على أحيائها الآمنة.
رغم إلحاح أهل زوجها الشديد عليهم بالعودة إلى مزرعتهم في قريتهم , إلا أنهم آثروا البقاء في المدينة نزولا عند إلحاح عبد الرحمن الشاب الثائر المفعم بالحماس والشجاعة.
كان حلم عبد الرحمن أن يشهد نصر الثورة ويهتف في ساحة سعد الجابري بأعلى صوته فرحا بالنصر, تغرق الدموع عيني أم عبد الرحمن وهي تتذكر تفاصيل يومه الأخير معهم, تجهش بالبكاء ثم تحاول لملمة أحزانها وتقول: “فيقتو قلتلو عبد قوم الفطور جاهز قلي انا صايم اليوم قلتلو معناها طالع عالرباط ”
فقد اعتاد على صيام أيام رباطه أو عند ما يكون هناك عمل عسكري, “كنت قلو يا ماما كيف بدك تقدر تقاتل وانت صايم بتتعب يرد عليي في أحلى من انه الواحد يقابل ربه وهو صايم”
لم يكن عبد الرحمن قد تجاوز العشرين ربيعا حين انضم إلى كتائب الثوار ليصد الاقتحامات عن أحياء مدينته ليدافع عن المدنيين , ويحمل السلاح ضد قوات النظام التي لم تفرق في قتلها بين مدني ومسلح.
تكمل أم عبد الرحمن الحديث عن تفاصيل يومه الأخير “قلي عطيني أحلى لبس بتحبيه عليي حتى ألبسو اليوم, حتى لما أرجع تزفيني فيه, هون قلبي رجف وحسيت سهم غرز بقلبي.. حاولت ماخليه يروح هالمرة قلي.. ياماما إذا منيتي اليوم رح موت ولو على سريري”
ذهب عبد الرحمن في صباح يوم الثلاثاء من شهر أيلول عام 2015 مع رفاقه الثوار لصد هجوم على جبهة الكاستيلو , ليعود محملا على أكتاف أصدقائه وهم يرددون الهتافات التي طالما حلم بأن يهتف بها يوم النصر.
هذه كانت وصيته , أن يزفوه يوم استشهاده بأناشيد الثورة الأولى, استقبلت والدته نبأ استشهاده بكامل الرضا والتسليم , واختلطت دموع الحزن والألم على فراقه بزغاريد الفخر بنيله ماتمنى.
تقول أم عبد الرحمن: “رغم تماسكي وتسليمي بقضاء الله وقدره وفخري بأنه ابني شهيد وما ركع لجلاده إلا أنه ريتها عيوني بليت بالعمى قبل ما شوف جسده الطاهر ممدد قدامي”
الموت هو الفجيعة العظمى التي لا يملك المرء تجاهها إلا أن يقف مُسلِّما، لأن ذلك مما هو محتومٌ ومقدّرٌ على مخلوقات الله منذ الأزل، ولا يمكن دفع الموت بأي طريقة.. إذ إنه آتٍ لا محالة منه ولا سبيل للهروب من ذلك.
ويكفي الشهيد فخرا أنه اختار نهايته كما يشاء، فنال الخلود في الجنة، وفي قلوب أحبائه، ليبقى ذكره حيّا ما بقي الزمان.
قصة خبرية/ إيمان هاشم
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع