نشرت “روسيا اليوم”، يوم 29 مايو/ أيار، تقريراً موجزاً بعنوان: “لاجئون من سورية ينقلون مرضاً خطيراً إلى أوروبا”. القارئ للتقرير يظن بأن مرض “اللشمانيا” الجلدي يتحمّل مسؤوليته اللاجئون وتنظيم الدولة. هكذا ببساطة، قبل أن يختم بعبارات “خط رجعة” باستخدام “بعض اللاجئين” جلبوا إلى الدنمارك “مرض السل والملاريا”. الربط بين اللاجئين السوريين وما خلص إليه تقرير “روسيا اليوم”، يُغيّب، كما العادة، المسؤولية الحقيقية لكارثة أكبر من خوف “روسيا اليوم” على أوروبا من استقبالها للاجئين وما يجلبونه من أوبئة.
التلاقي بين رمي التهم “الفاشية” وصياغة الأخبار على هذا النحو، المجتزأ من ناحية، والمهول في الأخرى، تُشتمّ منه رائحة كريهة من بروباغندا تشبه إلى حد متطابق تقريرا آخر نشرته قناة “العالم” الإيرانية في ديسمبر/ كانون الأول العام الماضي.
هذا المرض الذي يسمى أيضا “حبة حلب” ليس بجديد، فقبل انطلاق الثورة السورية كانت اللشمانيا منتشرة وكان هناك تعاون تركي ــ سوري لمحاصرته في الشمال. وفي 2012 وقبل أن تصبح “داعش” فزاعة النظام وحلفائه، كانت التقارير تتحدث عنه في مناطق جنوبية وشمالية. وفي 2013، صدر تقرير مفصّل عن مركز توثيق الانتهاكات في سورية يتحدث عن انتشار ذلك المرض في تسيل، بريف درعا.
وفي العام ذاته ( 24 مايو/ أيار 2013)، نشرت الصحافية الأميركية سيسلي هيلاري، صحافية بموقع إذاعة “صوت أميركا”، تقريراً تفصيلياً عن المرض الجلدي، حيث شرح التقرير ذلك التعاون التركي السوري السابق للثورة السورية، وكيف أن النظام الصحي ينهار في سورية ويمنع وصول الأدوية إلى المناطق المحاصرة.
مشكلة تقرير “روسيا اليوم” المشار إليه أعلاه، ليست أنه يلوي عنق الحقيقة ويهوّل ويخلط الحابل بالنابل عن أمراض أخرى كالسل وغيره، وألصق الأمر باللاجئين السوريين، الذين لم يلجأوا إلى خارج مدنهم وقراهم وإلى دول الجوار وأوروبا ترفاً أو طلباً “للسياحة”، كما تهكم ذات يوم شريف شحادة “ممثل الشعب في مجلس الشعب”، بل في تغييب المسؤولية والحقيقة الكاملة عن ما تقوله منظمات حقوقية وصحية محلية ودولية حول ممارسات النظام السوري العقابية بمنع الدواء والمبيدات عن المناطق التي ترفض الخضوع لسلطته.
أما رمي المسألة على التنظيم (رغم هول ما يرتكبه تنظيم الدولة في المناطق التي يسيطر عليها)، فتلك تفوح منها رائحة تسييس، حتى الخبر في مجال تغييب الحقيقة المرة التي تقول إن اللشمانيا ليست منتشرة في منطقة محددة، بل حتى ريف دمشق وحمص وحماة واللاذقية وشرق سورية تنتشر فيها الأوبئة تلك. فقد سبق لـ”روسيا اليوم” أن بررت وجود هذا المرض في ديسمبر/ كانون الأول باعتباره ناجماً عن “ترك التنظيم للجثث تنتشر في الطرقات”. المشكلة هنا ليست في الحديث عما أصاب السوريين من ويلات، بل عن تجاهل الأسباب. فكثيرا ما يردد الإعلام الحليف لنظام دمشق بأن 13 مليون سوري مهجر ولاجئ هربوا من “الحروب”.
يغيب عن بال محرري تلك التشويهات المقصودة أن ذاكرة القارئ والمتابع، وقبل كل هذا المتضرر المباشر، وهو الشعب السوري، ليست قصيرة ولا خرفة إلى هذا الحد.
لا يحتاج المرء للعودة إلى أرشيف مضحك ومبكٍ في آن منذ مارس/ آذار 2011 عن رحلة اللجوء السورية نحو تركيا “التي تدفع 20 ألف دولار لكل من يحضر إلى مخيماتها الجاهزة” (قناة الدنيا بعد الهجوم على جسر الشغور في يونيو/ حزيران 2011، بشهادة خبراء في الاستديو). لنعد فقط إلى مارس/ آذار 2016 واتهام منظمة الصحة العالمية وحجم الانتهاكات الصحية الممارسة من قبل نظام دمشق. وفي الشهر ذاته لم نقرأ على “روسيا اليوم” اتهام وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ستيفن أوبراين النظام السوري بـ”مواصلة منع وصول أدوية الأطفال ولقاحات التطعيم، وعرقلة إجلاء المرضى من المناطق والبلدات التي يحاصرها” في كافة أنحاء البلاد. وهو الذي قال إن حجم الأدوية (بينها أدوية علاج سوء التغذية للأطفال)، التي تتم مصادرتها أو منع وصولها يمثل “فضيحة”. ولم يختلف تقريره في مايو/ أيار 2016 كثيراً سوى بأن الصورة أكثر قتامة وسوداوية. تلك الصورة ببساطة تغيب عن وسائل الإعلام التي لا ترى القصف والتدمير الممنهج سبباً في أي شيء يحصل لهؤلاء الملايين المضطرين للنجاة بأنفسهم.
المذهل في التعاطي الإعلامي أن الضحية يجري تحميلها، تحريضا وتشفّيا، مسؤولية البراميل والصواريخ والقصف والحصار والمرض والموت جوعا ودمار البنى التحتية بتتبّع وقصف المشافي، فيخرج محللون على قناة “روسيا اليوم” ليخبرونا دائما بوجهة النظر الرسمية: “ما يجري فبركات واستفزاز”. ثم بابتسامة صفراء تصبح كل المنظمات الدولية والصحافة ورجال ونساء سورية “خطر على العالم” و”وباء ” يجب تجنبه وتركه تحت رحمة البراميل والحصار.
تبقى ملاحظة لا بد منها: لم تذكر الدنمارك لا من قريب ولا من بعيد بأن اللاجئين السوريين حملوا تلك الأمراض التي تذكرها “روسيا اليوم”. وكل ما ذكر هو تحميل النظام السوري مسؤولية ترك هذا المرض ينتشر حتى وصل إلى مناطق سيطرته.
العربي الجديد