بصراحةٍ، ومن دون مقدمات ورتوش، انطلقت الثورة السورية ثورةً شعبيةً على الظلم والقمع، وفشل نظام “البعث” عقوداً طويلة، وانتهت اليوم إلى حروبٍ بالوكالة، أطرافها كثر، إقليمياً ودولياً، على الأرض السورية وبالدماء السورية. سورية اليوم ملعب مفتوح مستباح، تدور على أرضه لعبة من دون قوانين، يُباد فيها الشعب، ويدمّر فيها البلد، وتضيع أجيالها، والأدهى أن لا نظام بشار الأسد هو من يملك الكلمة اليوم، ولا حتى فصائل المعارضة، فكلاهما أصبحا أدوات في صراع سرمدي دموي، يرقصون فيه على جراحاتهم هم أنفسهم، أو إن شئت الدقة، يرقصون فيه على جثة سورية.
لا يحتاج الأمر إلى كثير تأكيد على أن نظام بشار الأسد، بحماقته ورعونته ووحشيته، هو المسؤول الأول عن الكارثة التي حَلَّت بسورية. هذا معلوم بالضرورة وبالحقائق وبالتاريخ. لم يكن ثمة داع أبداً أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه اليوم، ولو كانت “لَوْ” تُصْلِحُ ما فَسَدَ لكنَّا جميعا استطردنا فيها، ولكنَّا قلنا: لو أن بشار نزل على بعض مطالب شعبه، في بداية الأمر، وهي مطالب مشروعة، محورها العدالة والحرية والكرامة والديمقراطية، ولم تطالب برحيله حينها، لكان ما بقي له من سلطةٍ أكبر مما يَتَوَفَّرُ عليه الآن.
ولكن الطاغية ركب رأسه، وتولى كِبْرَهُ، فانتهى به الحال رهينة عصابات إجرام، وأمراء حرب، ومليشيات طائفية، سورية وعربية وعجمية سواء بسواء. بشار في سورية اليوم ليس أكثر من تابوتٍ تَحْمِلُ فيه روسيا وإيران مسوغات حقّ تدخل مزعوم، على أساس أنه الرئيس الشرعي للبلاد، في حين يعلم الجميع أنه لا يحكم حتى قصره الآن. بل حتى أن روسيا لا تُضَيِّعُ فرصةً لتأكيد حقيقة بشار “الأراجوز”، فيتم استدعاؤه بشكل مهين لمقابلة القيصر، فلاديمير بوتين، في موسكو، ثمّ تراه كالأبله يمثُل أمام وزير الدفاع الروسي على الأرض السورية، من دون أن يعلم أن قدميه وطأتاها. أما جيشه المهلهل، فأصبح يُقاد ويوجه من جنرالات إيرانيين، وعناصر من حزب الله، أيّ إهانةٍ تلك لسورية وجيشها!؟
أيضاً، لو كانت “لَوْ” تُصْلِحُ ما فَسَدَ، لكنَّا قلنا: لو أن المعارضة السورية سمعت نصائح الغيورين بأن لا تثق بالولايات المتحدة، وبأن لا تضع بيضها في سلتها، وبأن تتعلم من أخطاء منظمة التحرير الفلسطينية، لربما كان حالها اليوم أفضل. ولو أنها لم تُسلم خِطامَ ثورة شعبها لأطراف عربية هي نفسها قمعية، وتمنع شعوبها الحرية، لربما كانت حافظت على استقلاليةٍ أكبر، ولم يتحوّل كثير من فصائلها لوكلاء للاعبين خارجيين، لا يريدون خيراً بسورية ولا شعبها. ولو أنها أدركت أن تركيا محكومةٌ بسقوفٍ أميركية-أطلسية، وبأن قدرتها على نصرة الثورة محدودة، لربما كانت الخسائر اليوم أقل. ولو أن فصائل المعارضة السورية استوعبت، منذ البداية، أن شرعيتها لا تتأتّى إلا عبر بوابة الثورة الشعبية، لربما كانت نجحت في القتال صفاً واحداً، لكنها اختارت منطق النزاع البَيْنِيِّ، على أسسٍ فكرية وسياسية وتنظيمية ومناطقية وتمويلية، فكانت النتيجة أن انساحت تنظيمات متطرفة، مثل داعش، في فوضى سورية، فأصبحت نكبة الشعب السوري نكبات.
مع كل أسف، انتهت سورية التي كنَّا نعرفها، وهي حتى إن كتب لها النهوض مجدّداً، وهذا ما نتمناه، فلن يكون ذلك قبل عقود. كانت سورية، دوماً، محوراً عربياً مركزياً، اتفقنا مع سياسات أنظمتها الحاكمة أم لا. “الشَّامُ” تَخْتَزِنُ رمزيات كبرى، إنسانياً وإسلامياً وعروبياً. هي إحدى مهاد الحضارات القديمة، وعلى أرضها انصهرت دياناتٌ وعرقياتٌ وثقافاتٌ كثيرة. وكما العراق الذي أسقط المسلمون عبره إمبراطورية الفُرْسِ، خاض المسلمون على أرض سورية معارك فاصلة، أنهكت القطب الثاني لنظام إقليمي/ دولي قديم، بيزنطة، ما أسّس لانبعاث نظام إقليمي/ دولي جديد، كان مركزه يوماً دمشق.
ومن “الشَّامِ”، انطلقت حركة التصدي للحملات الصليبية ودحرها، وبتعاونها ومصر، كُسِرَتْ العاصفة المغولية. أيضاً، كانت “الشَّامُ” حاضنةً مركزيةً للتأسيس للفكر “العروبي” والتصدّي للاستعمار الأجنبي. ومن دون مصر وسورية والعراق، تفقد الأمة العربية كثيراً من وزنها، ويختل توازنها، وهذا هو الواقع اليوم، بعد أن أُجْهِضَتْ مصر داخلياً، وَدُمِّرَ العراق أجنبياً، وَانْتُهِكَتْ سورية بصراعاتٍ بالوكالة. وإذا كان الشعار المعروف يقول إنه: لا حرب من دون مصر ولا سلام من دون سورية، فإن الحقيقة، أيضاً، تقول إن صراعاً مع إسرائيل من دون سورية يغدو بالضرورة خاسراً.
بسبب تلك الرَمْزِياتِ التي تَخْتَزِنُها سورية، يتم تدميرها اليوم، أو على الأقل تركها تَتَدَمَّر، والجُلُّ، إن لم يكن الكل، شريكٌ في تدميرها. فالإيرانيون لا يريدون سورية حرة ذات سيادة، ذلك أنها تنتقص من مشروعهم الطائفي التوسعي في الفضاء العربي. والإسرائيليون لا يريدون سورية قويةً ديمقراطيةً متماسكة، ذلك أنها تمثل نقطة ارتكاز لتهديدٍ وجودي لهم. والأتراك، وعلى الرغم من مآثرهم في دعم الشعب السوري ولاجئيه، غير أنهم لم يخفوا قلقهم يوماً من سورية قوية طامحة، ذلك أن لهم معها نزاعات حدودية.
ومحور القمع العربي لا يريد أن تُحْكَمَ سورية بشرعيةٍ شعبية، ذلك أنها كمصر، بثقلها الثقافي ورمزيتها التاريخية، تمثل خطراً على نماذج تخلّف أنظمتهم. أما الأميركيون، فإن آخر ما يريدونه هو دولة عربية محورية، مجاورة لإسرائيل، تكون صاحبة قرار مستقل، ولا تقبل أن تكون كوكباً هامشياً في فلكها. في حين أن الروس لا يريدون أن يخسروا منفذهم الوحيد على شواطئ البحر الأبيض المتوسط وقواعدهم العسكرية الوحيدة المتبقية في منطقة الشرق الأوسط. وكل الأطراف السابقة تتنافس على “الكعكة” السورية، المصبوغة بدماء شعبها.
باختصار، ما يجري في سورية اليوم لعبة شطرنج خبيثة، رقعتها جثة سورية نفسها، وَتُحَرِّكُ أصابع كثيرة بيادقها. المصيبة أن أغلب البيادق سورية، ببريئها ومجرمها. ونحن، وإن كنا نتمنى أن ينجح الشعب السوري في كسر المؤامرات الإقليمية والدولية على بلاده، وبأن تبقى سورية موحدةً متماسكةً تحت نظام ديمقراطي شرعي، غير أنه، حتى ذلك الحين، سنبكي كثيراً على الأطلال، خصوصاً، لا قدّر الله، إن قُسّمت سورية. وفوق ذلك، إن تناوشت أياد خارجية، بعض أطرافها.
العربي الجديد – أسامة أبو راشد