بوقار يغطي مسحة الحنان على جبينه، يجلس على كرسيه الخشبي القديم المنسوق من الحبال التي ما زالت تربطه بأوتاد قريته كل صباح، وأمامه سطل حبق يعدّ خطوات التلاميذ، ويلملم أحلامهم وهموم الوظائف ويرسم عمراً من الخذلان بألوان الباستيل الصغيرة في محافظهم
العائلة الأولى
تزوجت ولم يدم الزواج لأكثر من سنتين، لم نرزق بأطفال طلبت الرحيل لأسبابها لم نكن متفاهمين على الوفاق بقدر ما اتفقنا على المخالعة فسرحتها بإحسان
الزواج الثاني
تريثت كثيراً ومضت سنوات، أبحث عن امرأة مختلفة، ليست كالبيض الملون كما يوهموك وكانت كذلك القشور، فلكل إنسان بصمته الفكرية التي يختلف بها عن الآخر، وجدت ضالتي أخيراً، في مدينة حمص، كنت أزور صديقاً لي من أيام الجامعة، فتعرفت عليها في المدرسة، كانت آنسة تفقه بحسابات الرجال الوقورين، وتتقن رسم المستقبل، وتقرأ طالع الحياة في عيون الرجل، وتكتب بخطّ جميل ذاكرة البيوت.
الأطفال
تزوجنا ووافقت الانتقال معي إلى خان شيخون، عملنا في مدرستين مختلفتين، وعشنا في رغد متفق عليه، حلمنا بأطفال تأخذهم معها إلى مدرستها، وأعلمهم أنا تقليم الأشجار بعد الدوام، رزقنا الله ثلاثة أطفال، بعد خمس سنوات زواج، وكنت قد وصلت مشارف الخمسين، رجاء وفايز وحنين، تعرصت المدينة للقصف من النظام، طائرات وصواريخ وراجمات، هربنا وحملنا أطفالنا إلى القرى المجاورة، نقيهم شرٌ هذا الحقد.
الحنين القاتل
فكرنا في السفر، وصممنا عليه، وكان القرار لأجل أطفالنا لا أكثر، ولكن قبل أن نسافر قتلنا الشوق للبيت الذي شهد أولى خطوات أطفالنا، كان القرار أن نودّع قمر المدينة التي آنس سهراتنا، وترابها الذي يحفظ وشوشاتنا وضحكات أطفالنا، فلا بد من شهر وداع مع الأهل والأصحاب قبل أن نسافر إلى أوروبا.
الصباح الأخير
استيقظت خان شيخون على غارة جوية بدأت بصاروخين، تلتها طائرة أخرى بست صواريخ، وقعت في الشارع خلف دارنا، كان الخطأ الأكبر الخوف، حشرنا أنفسنا تحت سقيفة الحمام لتحمينا وفتحت ما بقي من النوافذ والأبواب كي لا تتطاير الشظايا في البيت لو عادت بغارة أخرى، احمرت ودمعت عيون الأطفال ووجوههم، هذا آخر ما أذكره.
https://www.facebook.com/syrianpresscenter/videos/759196891867664
في المستشفى
استفقت ليلاً في مشفى المعرة الوطني، ولم أكن أعرف ماذا حصل بالضبط، سألت عن عائلتي قالوا بخير في الخان، وعرفت من أحاديث من هم حولي أنها غارة من غارات السارين، انكمش قلبي أكثر، بحثت عن جيران لي أو أي أحد أعرفه، كانت نصف الخان في المعرة، كلهم أكدوا لي أن أطفالي وزوجتي بخير، ولكن كان يجب أن نؤمنهم في قبو بعيد خوفاً من الحقد.
قبو رطب لثلاثة أحلام وامرأة..
في مقبرة تبعد عن حينا في الخان عشرين عاماً من الانتظار، كان هناك قبو رطب، لأناس كانوا معنا قبل يومين، لا أعرف لماذا ماتوا لماذا كلّ هذا الحقد، ولكن أعرف أنها امرأة من حلم وثلاثة أطفال كانوا لي أمّة.
خير الوارثين
هجم النظام بعد سنتين وأكثر من المحزرة على مدينة الخان، نزحنا مرة أخرى، كان لا بدّ من زواج آخر، تزوجت راجعت الطبيب، فقال والتحاليل بيده، أثر عليك استنشاق الكيماوي وأمر الانجاب ليرزق الله.
تنهد أبو فايز بكل كبريائه وقال “وأنت خير الوارثين”.