لم تقف عائلة أم عمر القادمة من العاصمة السورية دمشق، هربا من ويلات الحرب، مكتوفة الأيدي عن مواجهة المجتمع الجديد الذي وجدت نفسها أمامه في مدينة إسطنبول التركية، بما يحمله من صعوبات في اللغة والمعيشة والعادات والتقاليد.
وعزمت أم عمر التي تحمل شهادة البكالوريوس في التجارة والاقتصاد ولها أربعة أبناء، على إدماجهم في المجتمع الجديد والاستثمار فيهم، ليكون مستقبلهم أفضل من الماضي الذي تركوه وراءهم في سوريا التي تعاني الدمار.
السيدة الدمشقية بدأت أولى خطواتها في تركيا منذ ثلاثة أعوام بطرق كافة الأبواب، لإدخال أبنائها في المدارس التركية التابعة للحكومة على الرغم من الصعوبات التي واجهتها في بادئ الأمر.
وأوضحت أن الأمر رفض في البداية وطلب منها التوجه إلى المدارس السورية التي كانت تنتشر في تلك الفترة، إلا أنه وأمام إصرارها فقد تمت الموافقة على إلحاق أبنائها الأربعة سارة وسيدرا وسلام التوائم الثلاثة، بالإضافة إلى الطفل الوحيد عمر، في مدرسة حكومية تركية لا يوجد فيها شخص واحد يتحدث اللغة العربية.
وقالت: “الأمر كان صعبا في البداية فأطفالي لا يعرفون اللغة التركية مطلقا وأنا لم أكن أتحدث بالتركية، لكن مع الإصرار والتعامل اليومي مع الجيران الأتراك والأصدقاء، فقد تعلم أطفالي سريعا لغة البلد الجديد”.
وأشارت إلى أنها قامت بدمج أطفالها في المجتمع التركي بعيدا عن المجتمع العربي بهدف تسريع تعلمهم للغة التركية.
رباعي دمشقي
الرباعي الدمشقي لم يكتف بدخول المدرسة وقضاء يومه في أداء الواجبات المدرسية، بل حول اللغة التي اكتسبها إلى مدخل للإبداع وابتكر طريقة لتعليمها لغير الناطقين بها.
وأطلقت أم عمر صفحة على موقع “فيسبوك” لتعليم اللغة التركية أسمتها “Türkçe konu?” لكنها لم تعتمد الأسلوب التلقيني التقليدي في التعليم، بل إنها لجأت إلى فكرة إبداعية تعتمد فيها على أطفالها من خلال تقديم اللغة بقالب تمثيلي سهل لا يخلو من الطرافة.
وتلجأ التوائم الثلاثة مع شقيقهن إلى استلهام قصة من البيئة المحيطة أو القصص التاريخية وتحويلها إلى درس في اللغة التركية، لتسهل على الآخرين حفظ الكلمات والمعاني، وتقوم الأم بعمل “مونتاج” لهذه التمثيليات القصيرة بما يتوفر من أدوات ورفعها على صفحتها في “فيسبوك”.
وعلى الرغم من العمر القصير للصفحة على موقع “فيسبوك”، فإنها حازت عشرات الآلاف من الإعجابات، بل إنها تشهد مستوى لافتا من التفاعل من قبل المتابعين، وعشرات الرسائل التي تشيد بما يقوم به الأطفال يوميا، كما توضح.
صعوبات وإصرار
وتقول أم عمر: “في البداية كانت الفكرة بسيطة وهي تسجيل مقاطع محكية من قبل الأطفال ورفعها على الفيسبوك، لكن مع الوقت اضطررت لشراء حاسوب شخصي وبرنامج من أجل عمل مونتاج لهذه التمثيليات”.
وأضافت: “بعدما لاقت البداية إعجابا وترحيبا من الأهل والأقارب والأصدقاء الأتراك قمت بتطوير العمل لتجهيز الأطفال بأزياء مناسبة، على الرغم من التكلفة المادية التي تستلزمها الفكرة”.
وأشارت إلى أن كل مقطع يحتاج إلى أزياء خاصة به؛ ففي إحدى القصص يؤدي الأطفال قصة ليلى والذئب وفي مقطع آخر يؤدون دور زعيم الحارة والعديد من الحكايات.
وحول الزمن الذي تستغرقه لإعداد القصص المصورة، قالت أم عمر إن أقصر مقطع يحتاج إلى عمل يزيد على ساعة ونصف، وبعض الأعمال تحتاج إلى ساعات.
وتواجه السيدة صعوبات تقنية ومادية في مشروعها غير الربحي، وأوضحت أنها تلجأ لتصوير المقاطع في ساعات النهار لأنها لا تملك الإضاءة المناسبة في الليل، إذ إن التصوير يعتمد على كاميرا الهاتف المحمول وإمكانيات الهاتف ضعيفة بهذا الشأن.
وتشير إلى أنها تعاني أيضا من العبء المادي بسبب الأزياء التي تستلزمها الحلقات، بالإضافة إلى حاجتها للإنترنت وما يستلزمه من تكاليف الاشتراك بالخدمة.
وتضيف أم عمر: “هناك صعوبات أخرى تواجهني في عملي وهو التشويش والأصوات المحيطة التي تظهر فجأة مثل أصوات سيارات الإسعاف، عدا عن انقطاع الكهرباء، وهذا كله يحدث تشويشا على العمل يستلزم إعادة التصوير ورفع المقاطع على الإنترنت”.
وحول أفكار القصص والنص والتدريب على التمثيل، تقول أم عمر إن فكرة الحلقات تطرحها هي ويقوم الأطفال بنقاشها، وهم من يقومون بكتابتها، خاصة أنهم متمكنون من الإملاء باللغة التركية.
وتابعت قائلة: “بعد كتابة النص يقومون بتقسيم الأدوار بينهم ويبدأ التصوير الذي يعاد فيه المقطع مرات عديدة بسبب الأخطاء الفنية إلى أن ينتهي التصوير بالكامل وتبدأ مرحلة المونتاج والترجمة والرفع على صفحة الفيسبوك”.
مشروع غير ربحي
وعلى الرغم من كون الأطفال خجولين في الحديث مع “عربي21“، فإنهم حين التثميل تتملكهم الجرأة ويؤدون أدوارهم بكل إتقان كما تقول والدتهم.
ولدى سؤالهم عن هدفهم من نشر المقاطع، تقول سارة وهي إحدى التوائم الثلاثة إنها ترغب بتعليم الأطفال الآخرين اللغة التركية كما تعلمتها هي من قبل ومن أجل نشر الفائدة حتى للكبار.
وعلى صعيد لغتهم الأم، اللغة العربية، قالت أم عمر إن الأطفال لا يعانون مشكلة في لغتهم وخاصة لهجتهم السورية، لكن بعض الكلمات العربية الفصحى ربما يصعب عليهم فهم معانيها في بادئ الأمر فأقوم بتوضحيها لهم، علاوة على المتابعة اليومية للغة العربية.
ولفتت إلى أن مشروعها غير ربحي، بل إن الهدف منه الفائدة للجميع ولتسهيل الحياة اليومية للعرب الذين لا يتحدثون اللغة التركية.
وبشأن الحياة المدرسية للأطفال تقول أم عمر إن المعلمات يستعنّ ببناتها لشرح بعض الدروس للطلبة العرب الذي لا يتقنون اللغة التركية، بإلاضافة إلى ترجمة الكلمات العربية التركية.
وأضافت: “ابني عمر قام بإلقاء قصيدة قبل مدة أمام قائم مقام إحدى المناطق التركية عن معركة جناق قلعة التي هزم فيها الحلفاء أمام الجيش التركي مطلع القرن العشرين”، مشيرة إلى أن المسؤول “أعجب بلغة الطفل وطلب منه تعليمه اللغة العربية”.
وحول أفكارها المستقبلية للمشروع، قالت أم عمر: “الفكرة كانت منذ البداية غير ربحية وأريدها أن تستمر كذلك على الرغم من المغريات والعروض التي قدمت من البعض، للتفرغ وتعليم الآخرين مقابل المال، إلا أنني فضلت أن تبقى في إطار الخدمة للجميع”.
وتلفت إلى أن استمرار المشروع مرتبط بالقدرة المادية على تمويل مستلزماته، وهو ما قالت إنها تعاني منه وتأمل في أن يتم الاهتمام بأطفالها وإبداعهم ومساعدتها على تنمية قدراتهم.
لكن أبرز تحد تواجهه حسبما قالت، هو الصفحات التي تقدم دروسا تعليمية مدفوعة الأجر للغة التركية، مشيرة إلى قيام بعض أصحاب هذه المواقع بإرسال تحذيرات لها للتوقف عن نشر المقاطع التعليمية التي تنتجها وإلا سيقومون بالاستيلاء على صفحتها، وهو ما حصل بالفعل حين قام أحد القراصنة بسرقة حسابها الخاص بصفحة التعليم، لافتة إلى محاولتها التواصل مع إدارة موقع “فيسبوك” لاستعادة التحكم بها.
يذكر أن عدد اللاجئين السوريين في تركيا بحسب العديد من الإحصاءات والتقارير الدولية بلغ قرابة الثلاثة ملايين لاجئ، يعيش جزء كبير منهم في عدد من المخيمات التي أقامتها تركيا قرب الحدود السورية، فيما يعيش جزء منهم في ولايات تركية، وبخاصة في مدينة إسطنبول.
وتخطط الحكومة التركية بحسب العديد من التصريحات التي صدرت عن مسؤولين فيها، إلى إدماج اللاجئين السوريين، خاصة أصحاب الكفاءات، في العديد من القطاعات، علاوة عن توجهات أعلنها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لمنح الجنسية التركية للراغبين بها من اللاجئين.
عربي21