شهدت محافظة السويداء، جنوب شرقي سوريا صدامات مسلحة في الفترة الأخيرة سقط فيها قتلى وجرحى، وقد تم حسمها بعدما تمكنت فصائل محلية يتقدمها “حركة رجال الكرامة”، من القضاء على مجموعة راجي فلحوط المدعوم من شعبة الاستخبارات العسكرية التابعة للنظام السوري.
فلحوط، معروف بولائه لشعبة المخابرات العسكرية وقد تسببت سطوته وممارساته بانتفاضة ضده أدت الى القضاء عليه.
هذا النص محاولة لرسم سيرة لهذا الشاب الذي صعد ثم هوى سريعاً.
من الصعب تتبع مسيرة راجي فلحوط، خلال السنوات الماضية، من دون التوقف عند محطات تضيق فيها المسافة بين الشخصي والعام؛ بين راجي والسويداء، بين أبو فجر والجماعة الدرزية. وللحظة قد يبدو راجي ظاهرة خارجية، زعيماً لعصابة ذات أجندة أمنية، متسلطاً على السويداء وأهلها، لكنه فعلياً، أشد ارتباطاً بنسيجها المحلي.
راجي، من مواليد عام 1985، وبدأ مسيرته المهنية كمغترب يعمل بديكورات الحجر في الخليج، قبل أن يعود إلى السويداء بعد عام 2011، متنقلاً بين بضع مجموعات مسلحة أهلية بعضها موالٍ للنظام. بعدها، أصبح راجي الناطق باسم “الشريان الواحد”، الائتلاف الذي ضمّ مجموعات مسلحة شبابية خارجة عن عباءة حركة رجال الكرامة، وساخطة على خروج الحركة عن مبادئ المؤسس البلعوس بعد اغتياله عام 2015، واتخاذها خطاً مهادناً للسلطة. راجي، ظهر في أحد مقاطع الفيديو التأسيسية للشريان الواحد، متوعداً غريمهم، الأمن العسكري، مُتهماً إياه بقتل الشيخ البلعوس. نعم، الأمن العسكري إياه، كان بالنسبة إلى راجي ورفاقه في الشريان الواحد، هو الغريم والخصم. فما الذي حصل خلال أقل من أربعة أعوام، لينقلب الغريم شريكاً؟
الأمر شديد التعقيد، وينطوي على طبقات متعددة. يمكن مثلاً، برصد مصائر المجموعات المسلحة التي شكلت الشريان الواحد، وتفككها تباعاً، الخروج بمجموعة قواسم مهمة تجمعها، برغم الخلافات اللاحقة التي دبت بينها. أولاً، معظم تلك المجموعات تألف من شباب دون الثلاثين من عمرهم، ممن تنقصهم المعرفة السياسية، وأحياناً الحياتية، والتي لا تعوض عنها مجموعة المقولات الرئيسية الكبرى التي اعتنقوها متأثرين بالشيخ البلعوس، حول مواضيع الكرامة والجماعة الدرزية. تلك المجموعات، سرعان ما غرقت بمعظمها في نشاطات غير شرعية لتمويل نفسها، من التهريب وتجارة المخدرات والسلاح، وأحياناً الخطف بغرض الفدية. التبرير الدائم لها، المتناغم مع مبادئها، كان أن لا ضرر يستهدف أبناء الجماعة الدرزية بأعمالها. يمكن فهم ذلك نسبياً، بتموضع خطوط التهريب بين مناطق نفوذ مختلفة الشدة، للنظام والمعارضة في درعا المجاورة، والقوى المتطرفة الإسلامية في الصحراء الشرقية، وأيضاً الأردن جنوباً. إلا أن التورط في تلك الأعمال غير الشرعية، ووفرة العوائد المالية الناتجة عنها، ودخول أجهزة النظام الأمنية، وبعض الأجهزة الأمنية الإقليمية، تسبب في انفراط عقد الشريان.
في الوقت ذاته من عام 2018، نفّذ الأمن العسكري بدوره، عملية استدارة نوعية لمقاربة ملف السويداء باللين، بقيادة رئيس فرع المنطقة الجنوبية الجديد حينها، اللواء كفاح الملحم، الذي خلَف اللواء وفيق ناصر صاحب المقاربة العنفية والصِّدامية مع الدروز. اللواء الملحم، استمال بعض قادة فصائل الشريان الواحد شخصياً، إذ يروى عنه أنه كان يستقل سيارته من دون مرافقة، ويُقلّ بعض أولئك الشباب في جولات طويلة ضمن المدينة، يتحدثون، يتبادلون الأفكار والحلول والتحديات، والثقة. المفتاح بسيط: سوريّة جهاز الأمن العسكري، وسط وجود مخاطر متعددة خارجية تتهدد وجود الدروز، والسوريين. والحل بدا بسيطاً: محلية الأمن العسكري، أي بناء مجموعات درزية محلية مرتبطة بالجهاز، تتلقى التمويل وتنفذ المهمات، لكن أيضاً يجوز أن يكون لها حيّز من الحرية لتنفيذ أجندتها المحلية الخاصة. وأحد أولئك المحظيين لدى الأمن العسكري كان راجي فلحوط.
منذ عام 2020، أقنع راجي فلحوط بعض أقاربه ومحيطه المباشر بتحوله الجديد. لا تناقض هنا: ولاء للدولة السورية، مقابل صلاحيات كثيرة ضمن الوسط الدرزي، ولعب دور الزعامة. طموح بدا أن راجي يحلم بتحقيقه. لم لا؟ الساحة شبه خالية سوى من شريحة الزعماء التقليديين ورجال الدين المتقدمين في السن والمحافظين. فمنذ اغتيال البلعوس، لم يظهر وسطاء جدد، ولا زعماء أيضاً. بينما مجموعة التحديات في الساحة الدرزية كبيرة جداً: انفلات أخلاقي، انتشار لمختلف أنواع المخدرات، فوضى عارمة على الصعد كافة، إلى جوع وفقر مستشريين، وهجرة واسعة النطاق.
أبو فجر، راجي، أسس “حركة قوات الفجر” التابعة رسمياً للأمن العسكري، واتخذ من بلدته عتيل، ومحيطها القريب، مقراً له. استمال الكثير من رفاق الأمس في الشريان الواحد، العاطلين اليوم من العمل، برواتب جيدة نسبياً ومروحة من الأهداف المغرية: ضبط الفساد والانحلال الأخلاقي في المجتمع. ترافق ذلك مع أحداث قريبة ومتباعدة، لكنها مركزية: تفكيك الأجهزة الأمنية بالقوة المفرطة لـ”مجموعة مدينة صلخد” المسلحة، الحليفة السابقة في الشريان الواحد، لأنها رفضت التسوية الأمنية. أيضاً، في فترة أقرب، انهارت عصابة بلدة عريقة بسبب تناقضاتها الداخلية، وقامت هبّة شعبية ضد عصابة مدينة شهبا عام 2021. وهنا، ورث راجي وحركته، معظم من تبقى من رفاق الأمس، شبكة علاقاتهم، وأحياناً ما تركوه من أبنية وأسلحة ونظام سجون ومراكز إيداع للمخطوفين.
لا تناقض هنا أبداً: فالمهم هو عدم وقوع الضرر على الجماعة. قد يكبر طبعاً مفهوم الجماعة، وقد يصغر بحسب دائرة العلاقات، وقد لا يضم سوى العائلة في مراحل معينة وأهل البلدة في أخرى، والطائفة حين يلزم. تمكن راجي، بحساب بسيط، من تعريف الجماعة على قدر مصالحه. فهو يبطش بتجار المخدرات الصغار، خصوصاً ممن يتاجرون بـ”الشبّو”، وهي مادة كيماوية خطيرة تسبب الإدمان وغالباً ما يموت متعاطوها خلال فترة قصيرة. بالنسبة إلى راجي، “الشبّو” شرّ محض. بينما الكبتاغون، أمر آخر، يمكن التسامح معه، بل يمكن شراء مكبس له وتصنيعه محلياً في منزل راجي نفسه. أيضاً، لا يجوز تشغيل النساء في الدعارة. هذا خط أحمر فاقع. لكن، لا بأس بالخطف والقتل أحياناً لمصلحة “قوات الفجر”، وأحياناً لمصلحة الأمن العسكري. نحن هنا أمام منظومة قِيَمية براغماتية ومتحركة، مع خلطة من الشهامة والكرم والنخوة الدرزية. بُنية فكرية هجينة حافلة بالتناقضات، لكنها متسقة مع شخصية راجي وما يمثله.
خلال الشهور الأولى من عام 2022، بدأ راجي إتمام طقوس تحوله إلى زعيم اجتماعي. له لقب جديد: القائد العام للحركة. بات يستقبل في دارته المكلومين، الفقراء، أصحاب الحاجات، ويلبّيهم. استخدم راجي علاقته الوظيفية مع الأمن العسكري لإخراج معتقلين، لكنه يستخدم فيض علاقاته السلطوية الأخرى لتخويف بقية الأجهزة، لا سيما المُحافِظ، ورئيس الشرطة. لا بأس، طالما أن ذلك يصب في خدمة الجماعة لمساعدة المرضى، وتوزيع الدواء المجاني، وجمع التبرعات. حاضنة شعبية تتسع، أعداء كثر يتربصون، والجرائم أخطاء لا ترحم. لم يتردد راجي في تصفية خصومه بسرعة، وفي ملاحقتهم وخطفهم. مع الصعود السريع، بدأ يطور نوعاً من البارانويا، فيشكّ في مؤامرات تستهدف تصفيته. ربما معه حق، كثير من الدم على يديه يصعب غسله، رغم ما يقوله مقربون عنه، أنه لم يتعاطَ أبداً أي نوع من المخدرات، ولم يشرب يوماً الكحول.
صعود سريع، بالاستناد إلى أدوات الآخرين، وقواهم. القوة الذاتية المحضة، لا كـ”راقِعي العُبي” مجايلي سلطان الأطرش، بل كناسجي التناقضات ولابسيها. راجي، صار الرقم الصعب في الجماعة الدرزية، خلال فترة قياسية، وبات له ناسه ومحيطه الخاص به، وصفحة لمحبي حركة قوات الفجر تنشر فيديوهات له يحاضر في القِيَم، والجماعة، ويصفح عن المخطئين ويمنحم فرصاً ثانية كُرمى لوالداتهم، والمشايخ.
نهاية راجي كان يمكن تأجيلها، لو امتلك حكمة أبعد. المشكلة أنه بدا واثقاً من قوته وقدرته على تنفيذ ما يريد، بعدما لم يجد من يقف في وجهه. كل الخصوم عبارة عن هياكل كرتونية، كما برهنت معركة بلدة خازمة في حزيران الماضي مع “قوة مكافحة الإرهاب” التابعة لحزب اللواء السوري، وانتهت بهزيمة كبيرة للقوة ومقتل قائدها. راجي استسهل، بعدها، فتح جبهات متعددة مع عشائر بدو السويداء، مهدداً أكثر من مرة السلم الأهلي بين الدروز والبدو. استراتيجيته أيضاً بسيطة دوماً: إضرب حيث يؤلم، وانتظرهم ليسألوك الصُّلح والعفو. لكن هذه الاستراتيجية لم تنفع مع أهالي مدينة شهبا الذين انتفضوا قبل عام واحد لطرد العصابات من مدينتهم، ونجحوا. راجي، خطف قبل أيام بعض أبناء شهبا متهماً إياهم بتدبير محاولة لاغتياله، وجلس ينتظر شيوخهم ووجهاءهم أن يسألوه الصلح. لكن أهالي شهبا ومجموعاتهم المحلية المسلحة، دقوا بابه بالرصاص، وتعاونوا مع “حركة رجال الكرامة”، لمهاجمة مقراته وتصفية جماعته وإنهاء عصابتهم.
وريثما يتضح مصيره شخصياً، يمكن القول إن راجي لم يكن شرّاً محضاً، بل أحد انعكاسات تخبط الجماعة الدرزية خلال السنوات التي أعقبت انتفاضة عام 2011، يضاف إليه طموح شخصي، ورغبة مُلحّة بلعب دور المُخلّص انتهت سريعاً بشكل درامي عنيف.
للمزيد من الأخبار اضغط هنا .
للاطلاع أكثر اضغط هنا .
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع